الجمعة، 30 يناير 2015

شيء من النقد الثقافي لقصة الزباء

تكاد قصة الزباء واسمها نائلة بنت عمرو
ملكة الجزيرة في التاريخ العربي تكون فريدة في اعتمادها على المخيال الذكوري البيٍن في تقابله مع الأنوثي وجعله هامشيا، حيث يقوم النسق الثقافي بمحاصرة المرأة الملكة برجال قتلوا أباها وعلى رأسهم جَذِيمة الأبرش أو جذيمة الوضاح والعرب تكني عن الأبرص بالوضاح، وفدوا إليها استصغارا منهم لأمرها، وظنا منهم أنها لا تأخذ بثأر أبيها، وقد أرسلت إلى جذيمة رسالة تعده وتمنيه بتسليم نفسها وملكها إليه وما تعده إلا غرورا، فلما قدم إليها مخالفا نصح بطانته وحاشيته أخذت ثأرها منه واعتمدت فيه طريقة نسائية غريبة وهي اعتبار قول المنجمين أن دمه  ينبغي ألا يتطاير لئلا يؤخذ بثأره فجعلت دمه في الطست، بعدما قتلته، ومما أخبر به المنجمون الملكة الزباء أن أجلها يكون على يد فتى غرٍ هو عمرو بن عدي اللخمي الذي أصبح ملكا فأرسلت إليه رساما ماهرا يتسلل إليه ويأتيها بصورته على جميع الهيئات الممكنة حتى تتقيه وتحمي منه نفسها إن هي رأته.
وقد نجا منها قصير فرجع إلى عمرو بن عدي اللخمي وهو وصي الملِكِ القتيل، ووعده بأخذ الثأر له منها بالحيلة فجدع قصير بن سعد اللخمي أنفه وترك أثر السوط على ظهره لتصدقه في دعواه أن نديمه الملك اتهمه بمساعدتها على قتل أبيه، بل وفوق ذلك لتتخذه نديما مقربا مسموع الرأي، ولأنها أنثى فالثقافة الذكورية والنسق الغالب في المخيلة العربية لا يقبلان  أن يخدعها إلا قصير (وهو رجل ناقص في قامته وفي كونه مجدوع الأنف) فوعدها بالحلي والزينة والزرابي والقُطُف من أرض العراق فأوفدته مرة ووفد ورفد بما تشتهيه الملكة من أطايب ونفائس الهدايا، ثم أوفدته فوفد ثانية بمثل ذلك، فلما كانت الثالثة تسلل لإلى قصر عمرو بن عدي اللخمي وجعلا في الصناديق مكان الهدايا جنودا مدججين بالسلاح، ولما كانوا منها مسيرة يوم شكت في وضعهم، ولكن "رجالها" سفهوا مقالتها، فنجح قصير في إدخال الجيش محمولا في الصناديق ونفشه في قصر الزباء، وهاهي ذي تنخدع أو تنطلي عليها الحيلة ليمكن النديم نديمه القديم وهو الملك من قتل نديمه الثاني (واللغة لا تسمح بالتأنيث هنا).
وبالفعل فإن الحيلة رغم كونها تغلب على تصرف النساء، فإنها تستخدم ضدهن وتنجح أيضا، لكن ذلك قد يختص بمن ليست منهن على كرسي المُلْك ويعلوها تاجه، ويأتمر بأمرها جنوده، لقد تم تصوير الزباء في القصة على أنها امرأة تغتر بالمظاهر، إذ يتم التركيز في قصة الملكة الأنثى على حاسة البصر أي على "الصورة" والمظهر الخداع، وعلى العاطفة بدل العقل، فهي تبصر القادم من مسافة يوم، لكنها لا تعنى برده إن كان مغيرا، أوقتاله إن كان صائلا، أو دحره إن كان غازيا، بل يقتصر دورها على رؤيته فحسب، وإخبار "الرجال" عنه وهي لذلك لاترد قصيرا بل تصدق ما رأت عيناها في وجهه وجسده، فتقربه وتثق فيه مغلبة العاطفة على العقل، وهي تصدق ناظرها ولا تستخدم عقلها لفحص ما ترى في العير أو القافلة من حِمل ثقيل تغوص معه قوائم الجمال، ظنا منها أنها نفائس العراق حمًلها قد إليها الحظ، فتتخيل أنها لا تزال ترفل في الحلل من الدمقس وتتقلب على فرش الحرير، والحال أن الأمر مختلف بتدبير الرجال حتى يكون الظاهر الذي تنخدع هي له غير الباطن الذي يرْدونها به، ثم إن اعتمادها على صورة العدو للنجاة منه هي أيضا من التصرفات التي تختص بها المرأة، حيث ترسل الملكة رساما إلى عدوها ليرسمه قائما وقاعدا ومضجعا وعلى فرسه، ويأتيها بتلك الصور حتى تتمكن من معرفته عند رؤيته فتنجو منه .
ومن أهم مظاهر تحكم النسق الذكوري وتمركزه حول ذاته في الثقافة المروية العربية، أن المرأة لا تكون مركزية في أي بطولة مطلقا، ولا ترد في قصة لذاتها أبدا، بل إنها حين تكون ملكة فإنما لتأخذ بثأر أبيها الرجل كما في قصة الزباء، وحين تكون شاعرة فإنما لتنبغ في رثاء أخيها كما في قصة الخنساء وكلا الاسمين ممدود، ومن الطريف أيضا في هذا السياق أن أغلب القصص التي ترد فيها نساء في مجابهة رجال يوسم الرجال فيها بالنقص كما الحال في قصة الزباء التي يجابهها هنا رجلان من اسميهما يتضح النقص وسمة القدح، فالأول الأبرص والثاني قصير مجدوع، ومثل ذلك كثير ففي قصة النابغة وتحكيمه بين الشعراء كان من يجابه الخنساء هو الشاعر الأعشى وهو ناقص الرؤية ليلا.
وحتى في اللحظات الأخيرة من قصة الملكة الزباء فإن الثقافة ممثلة في النسق الذكوري المتحكم في اللغة قولا وتقعيدا ورواية لا ترضى للرجل قتل المرأة فتجعلها مسمومة بخاتمها أي بزينتها الحقيقية هذه المرة وليس بالزينة المزيفة من الجنود والسيوف . 


 د. أحمد سالم ولد اباه أستاذ جامعي   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق