الدكتور أحمد سالم ولد اباه - أستاذ جامعي
أولا / النص
أدمعا تبقيان بغرب عين وقد
عاينتما دار الكنين؟
أليس من الوفاء لقاطنيها إذالة ما يصان بكل عين؟
بلى إن البكاء على المغاني بمنهاج الصبابة فرض عين
وإن لم يبق منها غير رسم كوشم في نواشر معصمين
فإن لها يد دينا علينـا وحتم أن يؤدى كل دين
أفاويق الصفاء بها ارتضعنا مدى حولين كانا كاملين
ولم يسحر فؤادي قط طرف سوى طرفين فيها ساحرين
فذانك تاركا قلبي
وروحـــــــــي لنيران المحبة
صاليين
فعوجا يا خليلي اللذين هما مني بمنزلة اليدين
عليها باكيين وحيياها معي حييتما من صاحبين
قفا ثم ارجعا الأبصار فيها وعودا فارجعا ها كرتين
بها مترسمين لها وكونا إذا لم تبكيا
متباكيين
وإن جمدت عيونكما كلاني إلى عينين لي نضاختين
وكونا عاذرين ولا تكونا إذا لم تسعداني عاذلين
فما لكما سوى الذكرى سبيل علي فلستما بمسيطرين
وقد حوت "الميامن"
منزلات وريع بني المبارك منزلين
ومغنى حول "ذات القرم"
عاف وآخر دارس "بالتيرسين "
ودار حول "حقف النصف"
أقوت وأخرى أقفرت "بالتوأمين"
سقاها كل منهمر العزالي من الأزمات يغسل كل رين
فتصبح غبة الأجراز تحكي مصانعها تعاويذ اللجين
وتشبه في غلائله هدايا برزن إلى الزفاف بكل زين
معاهد عندنا في الحب فاقت معاهد منعج والرقمتين
ليالي لا أحاذر أن ألاقي صدودا من سعاد ولا بثين
ولم تقل العذارى أنت عم نعدك عندنا أحد
الأبين
تحن إلى الشباب ولست منه على حظ سوى خفي حنين
فقلت لهن إن يك وخط فودي يسوء الفاليات إذا فليني
فكم يوم يعز على الفوالي به مني فراق المفرقين
وكم يوم وترت به العذارى كيوم مهلهل بالشعثمين
يجبن إذا دعا الداعون باسمي كأني عندهن ابن الحسين
تلاحظني العبور مع الغميصا فآنف عنهما للمرزمين
وإن أبدت لي الجوزا وشاحا سلكت بها سبيل الشعريين
وإن تشر الثريا لي بكف خضيب قلت عنى للبطين
وحيث بنات نعش درن حولي تركت وصالها للفرقدين
وكم شمس بهالتها تحلت ولاحت بالزوال خلال غين
وغار البدر إذ ولته منها نوارا فازدريت النيرين
ولا عجب إذا خنتن عهدي وآثرتن إقصائي وبيني
فقد خنتن في القدماء عبديــ ــــن قبلي للمهيمن صالحين
ومن شرخ الشباب اعتضت حلما وحال الحلم إحدى الحسنيين
وكنت إذا عزمت على ارعواء وجدت عزيمتي إسراء قين
وكم سامرت سمارا فتوا إلى المجد انتموا من محتدين
حووا أدبا على حسب فداسوا أديم الفرقدين بأخمصين
أذاكر جمعهم ويذاكروني بكل تخالف في مذهبين
كخلف الليث والنعمان طورا وخلف الأشعري مع الجويني
وأوراد الجنيد وفرقتيه إذا وردوا شراب
المشربين
وأقوال الخليل وسيبويه وأهلي كوفة
والأخفشين
نوضح حيث تلتبس المعاني دقيق الفرق بين المعنيين
وأطوارا نميل لذكر دارا وكسرى الفارسي وذي رعين
ونحو الستة الشعراء ننحوا ونحو مهلهل ومرقشين
وشعر الأعميين إذا أردنا وإن شئنا فشعر
الأعشيين
ونذهب تارة لأبي نواس ونذهب تارة لإبن الحسين
وإني والنهى تنهى وتجلو خفايا اللبس في
المتشابهين
عدتني أن أصافي كل خل مخايل من مداهنة ومين
كلا أخوي يظهر لي ودادا فأعرف ما يسر كلا الأخين
فمن يك راغبا في القرب مني يجدني دون ماء المقلتين
ومن يوثر قلاي فليس شيء يواصل بينه أبدا وبيني
ألاحظ من خليطي كل زين كما أُغضي له عن كل شين
ولا أصغي إلى العوراء حتى يرى أني أصم المسمعين
وما جهل الجهول بمستفِزي ومالي بالدنية من يدين
وأحمل كل ما يأتي خليلي له إلا عبوس الحاجبين
وليس يهولني من مستشيط تهدده بنفض المذروين
وعندي جانب في الهزل لين وآخر عند جدي غير لين
وقد يلفى إذا الجلى ادلهمت أسامة من يظن أبا الحصين
ومهما يعرني للهم ضيف يجر من البلابل ضيفنين
جعلت قراه أكوم قيسريا هجان اللون جون الذفريين
كأن صنانه المنباع نقس تحدر من جوانب قمقمين
على ليتين كالترسين مُدا إلى كالقصر رحب القصريين
يزم عن الكلال، وكل نعت يعاب سوى انفتال المرفقين
رعى روض الحمى غضا نضيرا فلم يحتج لماء الدحرضين
وعن صدَّا له السعدان أغنى إلى أمد انسلاخ جماديين
له افتر الكمام بكل ثغر وبكّاه الغمام بكل عين
فملكه الرعاة الأمر حتى كساه الني نسج المشفرين
تثبطه أداهم من حديد ينوء بها مداني الساعدين
إلي أن كاد وهو بلا جناح يطير بقوة في المنكبين
هناك علوته بقتود رحل حماه الكتر مس المتنيين
فحاول أن يباري في البراري هجفي سابق بالدونكين
يسير الخيطفى حينا وحينا يراوح بين كلتا الخيزلين
يولي المعز أخفافا خفافا تغادر كل صخر فلقتين
تقاذف بينها الظران شتى تقاذف أيمنيين أعسرين
به أحيي التداني كل حين وأدنو للتنائي كل حين
أغادره وقبلي مستحيل عليه الأين ذا ظلع وأين
وأرحله سليما منسماه وأرجعه رثيم المنسمين
ولو لم ألفه أصلا لطارت بي العزمات بين الخافقين
فللعزمات أجنحة تداني كلمح الطرف بين الشاحطين
فشطر المشرقين تأم آنا وآونة تأم المغربين
وليس كمثلها وزر للاق من الدهر ازورار الجانبين
فما حر يقيم بدار ذل ولو كانت مقر الوالدين
وحسب المرء نيل غنى وجاه وهل يسعى الرجال لغير ذين
ومسقط رأسه ضر ونفع وإلا فاتباع القارظين
فمال المنذرين يعد فقرا بلا عز ومال الحارثين
وعز الحارثين يُعد ذلا بلا مال وعز المنذرين
فعش حرا فإن لم تستطعه فضربا في عراض الجحفلين
وهون في أقاص الناس هين وهون في العشيرة غير هين
فما المنكور من أصل وعين بكالمعروف من أصل وعين
ولما صاح من فودي نذير وصرح ثانيا بالعارضين
وقبل الشيب إيجادي نعاني فليس الشيب أول ناعيين
وداعي القلب بالتجريب نادى وداعي الله أندى الدعيين
سلا قلبي عن الدنيا لكوني وما أهواه منها فانيين
وإني إن ظفرت به فلسنا على حال تدوم بباقيين
ولكنا إذا طبق تولى على طبق ترانا راكبين
وعن عهد الشبيبة والملاهي وأيام الميامن والكنين
سوى أني استباح حريم صبري هوى الحرميين أشرف موطنين
وسوف تفي العزائم و المهارى بوعد منجز من وافيين
فقد منينني قبل المنايا مرور ركائبي بالدهنوين
ينازعن الأعنة سالكات ممر الجيش بين العدوتين
تبادر بالحجيج ورود بدر ويحدوها الحنين إلى حنين
قواصد رابغا تبغي اغتسالا وإحراما لديه وركعتين
تمر بذي طوى متناسيات لفرط الشوق كل طوى وغين
من التنعيم يدعوها كداء إلى البطحاء بين الأخشبين
على باب السلام مسلمات بتطواف وسعي عاجلين
تناخ لحاجتي دنيا وأخرى هناك فتنثني بالحاجتين
ببيت الله ملمس كل حاج تعالى الله عن كيف وأين
حمى إن أمه لاج وراج يكونا آمنين وغانمين
فمن يجهل حمايته يسائل أمير الجيش عنه وذا اليدين
إلى خيف المحصب رائحات بكل أشم ضاحي الوجنتين
وتغدو بالشروق مبادرات بنا ... نعام جافلين
من التعريف مسيا صادرات يخدن منكبات المأزمين
ومن جمع يسرن مغلسات لوقفة ساعة بالمشعرين
ببطن محسر متراميات لأولى الجمر دون الآخرين
وترجع إن أفاضت لابثات ثلاث ليائل أو ليلتين
وللبيت العتيق مودعات قد ارتاحت لإحدى الراحتين
وأخرى لم تكن لتنال إلا مرور محل إحدى الهجرتين
إليها من كدى يهبطن صبحا هبوط السيل بين القنتين
توخى مسجد التقوى تحرى مناخ محمد والصاحبين
تمر بذي الحليفة حالفات على الألباب بين اللابتين
فتستقصي بها الركبات6
منها من القصوى مكان الركبتين
ولا تلقي عصي السير إلا إذا وصلت لثاني المسجدين
ضريح المصطفى صلى عليه مع التسليم رب المشرقين
يحف خليفتيه به فأكرم بهم من مصطفى وخليفتين
وأصحاب البقيع ومن حوته من الأبرار كلتا البقعتين
جزوا عنا بريحان وروح عليهم لن يزالا دائمين
وأوتوا جنتين دنت عليهم بخير جنى ظلال الجنتين
أولاك الناس أهل الله حقا حماة الدين بالأسل الرديني
بهم يا رب عاملنا جميعا بلطفك دائما في الحالتين
وبالمأمول جد فضلا علينا وقِ الأسواء في الدارين تين
وبالحسنى لنا فاختم إلهي كتاب الحافظين الكاتبين
ثانيا / معالجة النص
إذا انطلقنا من مقولة أنه "لاشيء يفنى ولا شيء يخلق
من العدم، وأن كل شيء يتحول" علمنا أن النصوص في سيرورتها الأبدية لم تأت من
فراغ؛ بل أتت من تفاعل المبدعين مع محيطهم، وما بقي منها وما نُسي واندثر كله لم
يذهب للعدم بل تحول إلى تجارب الأمم بواسطة مبدعيها وإلى الأمم اللاحقة لها على
شكل نصائح وتقاليد وممارسات كان لها الأثر الملموس وغير الملموس بكل نسبية في
تجاربنا ورؤانا للكون كل حسب قدرته على الأخذ أولا وعلى تحويل تلك التجارب إلى
أشكال أخرى من فنون القول والعمل، علما بأن صحة البدن والعقل والقلب والذائقة تبدو
في شيء واحد هو قدرتها على هضم المدخلات وإعادة تدويرها؛ لذلك فأسامة سيد الغابة
وهو ليس في الحقيقة سوى مجموعة خراف هُضمت هضما جيدا، وقل مثل ذلك عن الشعراء
والكتاب والمفكرين والقادة كل فيما يخصه وحسب أداة التحويل الخاصة به .
من هنا ينقسم التناص –كما لمحناه - في نونية ابن الشيخ سيدي إلى ثلاثة أنواع :
Ø التناص في الموضوع : ونقصد به وجود بعض الموضوعات المتقاطعة في الشعر
عموما والشعر العربي خصوصا وفي الشعر الشنقيطي (الموريتاني) بشكل أخص، مثل الصدود
والهجر والفراق، والتوديع والشوق والطيف والدمع وما شاكلها؛ فهي من حيث كونها قد طُرقتْ
يسمى ذكرها نسجا على المنوال، أما من حيث كونها لا تنسب لشاعر بعينه فإن ذلك يُضعف
من حجية القول بالتناص فيها؛ إذ قد فقدت أحد أركان التناص وهو الناص الأول.
ولأن النونية جاءت لاستعراض ما ينبغي أن يكون عليه حال
الفتى العربي؛ من إلمام بكبريات المسائل اللغوية، وإلمام من الفقه بما عليه
الفتوى، ومن العقيدة والتصوف وعلم الكلام، وحفظ الشعر وطبقات الشعراء وألقابهم، ومطالع
النجوم ومنازلها، وما يحسن بالفتى من معرفة طباع الخلق، وافتراق أجناس البشر في
نحل العيش واختلاف ألسنتهم وألوانهم، وما يصلح للصحبة من الرجال وأدب المجالسة
والمؤانسة، وما يصلح لكل جنس دون غيره، وقد أبدع سِيدْنَ في ذلك وأظهر بل وأبان عن تنشئة وتثقيف وتربية لا يبررهما
إلا واحديته عند أب مثل الشيخ سيدي الكبير الذي كان مضرب المثل في كل شيء بهذه
البلاد .
وتعكس النونية تلك الثقافة الموسوعية على صفحتها الصافية
بكل وضوح، حتى أننا لانحتاج إلى التمثيل فالنص طافح باستعراض خصوصيات الإنسان
العربي طبعا وسلوكا وفكرا وإبداعا؛ ففي مجال الشعر مثلا على الفتى أن يكون قادرا على
مذاكرة الأقران في المصادر التالية، ولا شك أن تمرسه بتلك المصادر واستظهاره
لأكثرها يؤكد فرضية التناص في مستواه العام يقول :
ونحو الستة الشعراء
ننحوا ونحو مهلهل ومرقشين
وشعر الأعميين إذا
أردنا وإن شئنا فشعر الأعشيين
ونذهب تارة لأبي
نواس ونذهب تارة لابن الحسين
وفي مجال صحبة الخِل وحسن معاشرته وعدم قلاه إلا لضرورة
المعاملة بالمثل يقول على سنن القائلين قبله في هذا المعنى العام :
فمن يك راغبا في
القرب مني يجدْني دون ماء المقلتين
ومن يؤثر قلاي فليس
شيء يواصل بينه أبدا وبيني
والحق أن الشعراء بين أمرين أحلاهما مر فإما أن يأتوا
على المعاني العامة التي تميز ثقافة العرب، وتُظهر براعة الشعراء في الإلمام بها
وتجاوزها يرمون بالتقليد، وإما أن يهملوها فيرميهم النقاد بالشعوبية وعدم الاطلاع
على أساسيات القول في العربية، وقد فطن ابن الشيخ سيدي إلى أزمة الإبداع تلك- في
غير هذا النص – فصدح بها قائلا :
إن يتبع القدما أعاد
حديثهم بعد الفُشو وضل إن لم يتبع
Ø التناص في اللفظ ونقصد به استخدام المعجم الخاص بغرض من الأغراض ك السحر
في الغزل دلالة على التعلق وعدم القدرة على المفارقة، و كالإعراض في الفخر دلالة على الأنفة، و المطر في الرثاء دلالة على
الرحمة وكل ذلك على مستوى المفردات دون التراكيب، وهو نوع آخر من التناص المُتكلم فيه إذ أن الألفاظ
شيء للجميع، لكن خصوصية استخدامها هو ما يحمل المتلقي على الاعتقاد بأن التعالق
حاصل بين تلك النصوص وبين نونية ابن الشيخ سيدي، فكل معجمها تسري فيه روح ورونق
وبلاغة النص الشعر العربي الأمثل .
Ø التناص التركيبي وهو المقصود حقيقة بالتناص، إذ هو كلام يُفهِم معنى
بالإسناد أو بالإضافة أو الوصف، والباحث عنه يتتبع جسما حيا قائما بذاته له
مواصفات تُجليه، وعلامات تنميه، وهو مملوك للمتقدم إذ كان من بنات فكره، حتى أحكم
نسجه، فحلاه بالنقش، وزينه بالرقش؛ حتى كان كل مسترفد له متبعا وناسجا على منوال
الأول الذي لم يترك للآخر شيئا، غير براعة النسج، والإبعاد في المسافة بين الدال
والمدلول انزياحا؛ لتحرير الذهن الإبداعي من الربقة الأولى، وإفساحا لمجال لذة
الاكتشاف النقدية على رأي رولان بارت، وستكون لنا وقفات إلماحية مع هذا النوع من
التناص في نونية سيدْنَ على التالي :
v الوقوف على الأطلال: يقف الشاعر الجاهلي - أو البدوي بصورة أعم- على
الأطلال والمنازل والرسوم والدمن والآثار والمغاني متأملا وحده أو مع صاحبه أو صاحبيه؛
إذ سرعان ما سيرحل تاركا خلفه تلك الأطلال كما تركها من قبل بسبب الظروف المناخية
والأمنية والاجتماعية من ذلك وقوف امرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية الأولى :
قفا نبك من ذكرى حبيب
ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وفي الشعر الموريتاني نرى الظاهرة نفسها تتكرر مع
اختلافات بينة في الأسلوب والمعجم تبعا لاختلاف التاريخ وتقلب الجغرافيا يقول
امْحمد ولد أحمد يوره
على الربع بالمدروم
أيه وحيه وإن كان لا يدري جواب
المؤيه
وقفت به جذلان نفس
كأنما وقفت على ليلاه فيه وميه
وقلت لخل طالما قد
صحبته وأدنيته من بين فتيان حيه
أعني بصوب الدمع من
بعد صونه ونشر سرير الحب من بعد طيه
فما أنت خل المرء في
رشده إذا أنت لست الخل في حال غيه
وقد ردد الشعراء في وصف تعلقهم بالطلل والرسم والدمن
معجما يكاد يكون موحدا فذكروا :
1- الدمع: جمودا وانهمارا،
شفاء للغليل وتحويلا لشحنة الشوق النفسية إلى إفراز جسدي قد يصل النحر بل يتجاوزه
إلى المِحمل يقول امرؤ القيس :
وإن شفائي عَبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول
ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي مِحمَلي
وفي مقارنة بين طرفة
والملك الضِّليل نلاحظ أن التجربة وفارق العمر والأسفار لعبت دورا في تذكر الديار
والبكاء عليها عند الثاني ، وعدم الإكثار من ذلك عند الأول يقول:
ولم أبك طيفا زار وهنا خياله
ولا شاك خاف الخدر كنت أُغانقه
ولا شاقني ربع خلا من أنيسه فأضحت
به آرامه وزقازقه
وليس عزوف طرفة هذا
نابعا من شعوبية أو عن عدم اقتناع بالمواضعات الثقافية إنما هو استجابة لحالته
النفسية الشابة التي لم تجرب على رأي علماء النفس الذين يشبهون عمر الإنسان
بالمتسلق جبلا يُمضي نصف حياته ذهاب للوصول إلى القمة؛ وهو في تلك المرحلة مستكشف
لما يُقابله لا يعرف منه شيئا، فإذا أخذ في العودة منحدرا في نصف عمره الثاني كانت
معرفته بمظاهر السفح أكثر وتذكره لها مبررا لرؤيتها في طريق الذهاب وهذا ما يحدث
مع الإنسان وخاصة الشعراء والأدباء الذين هم الأشخاص المِثاليون الذين يعبرون لنا
عن مكنوناتنا النفسية؛ ولذلك فنحن نطرب للشعر لأنه يمثل خلاصة تجاربنا التي عجزنا
عن التعبير عنها.
وقد رأى بعض الشعراء
قديما وحديثا أن جمود الدمع عند التذكر والحنين والفراق مما يؤخذ على الإنسان عامة
أحرى أن يكون شاعرا، ويعظم الذنب حين يكون الدمع مصونا ومضنونا به يقول امْحمد ولد
أحمد يوره :
أذر الدموع على ربع لآل به صون
الدموع به عيب يرد به
وقبل
ذلك في حرقة الخنساء الباكية على أخيها صخر :
أعيني جودا ولا تجمدا ألا
تبكيان لحصر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل ألا
تبكيان الفتى السيدا
إذا القوم مدوا بأيديهمُ إلى
المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم
مضى مصعدا
2- الحيوان: وسيلة النقل جملا
أو ناقة أو فرسا؛ سوائم سائبة مثل الآرام والثور الوحشي
3- ما على وجه الأرض من
النبات والشجر والحجر والكثبان
4- وسائل التعرية والتغيير
الطبيعية كالمطر والرياح، ومن أهم المعاني المطروقة والمؤسِسة للوقوف على الطلل
معنى الاستمطار يقول سيدن :
سقاكما منهمر
العزالى من الأزمات يغسل كل رين
ومع أن الاستمطار معنى ثقافي عام فإن منهمر العزالى بهذا الوصف الغزير
للمطر المطلوب هو معنى خاص حيث نراه عند الشريف المرتضى أبو القاسم السيد علي بن
حسين بن موسی الملقب بذي المجدين 355هـ
- 436 هـ وهو غير الشريف الرضِي359 هـ
- 406 هـ
سقى نجداً ومن
بجنوب نجدٍ مُلِثُّ
الوَدْقِ منهمرُ العَزالي
كأنَّ بروقه يخفقن
بُلقٌ خرجْنَ على الظَّلامِ بلا جِلالِ
وأسيافٌ سللن على
الدّياجى لها عهدٌ قريبٌ بالصّقالِ
5- طلب العذر بعد عذل الرفيق
للشاعر في جمود الدمع :
وكونا عاذرين ولا تكونا
إذا لم تسعداني عاذلين
ومن صاحبيه يطلب أمورا أخرى مثل تحية الدار، والتمعن في
تفاصيلها مرة بعد مرة بأسلوب يتقاطع مع الأسلوب القرآني الأخاذ في الآية الكريمة
"....ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير" ، وقبل أن
نغادر هذه الفقرة علينا ملاحظة تعريب أسماء الأماكن (الديار) فهذه
"الميمون" و"زيرت النص" و" التيرسان"
و"التوامه" فُصِحت لتتلاءم مع الشعر في نسخته الأولى، ومن آثار تفصيحها
أني لا أتبين أصولها اللهجية الواقية على الأرض، ولكني أرجو أن أكون قد وُفقت في
ردها إلى أصولها.
وقد حوت "الميامن"
منزلات وريع بني المبارك منزلين
ومغنى حول "ذات القرم"
عاف وآخر دارس "بالتيرسين "
ودار حول "حقف النصف"
أقوت وأخرى أقفرت "بالتوأمين"
6- مقارنة المنازل والديار بأخرى والحكم لهذه الموقوف عليها بالتفوق، وابن
الشيخ سيدي ارتبط في هذه الحيثية بزهير ابن أبي سلمى؛ حيث يشبه رسمه برسمه كوشم في
نواشر معصم أو معصمين:
وإن لم يبق منها غير
رسم كوشم في نواشر معصمين
ثم يُفضل معاهده على
معاهد زهير بالرقمتين ومنعج في قوله :
معاهد عندنا في الحب
فاقت معاهد منعج والرقمتين
v
ذكر أيام الشباب
ويرتبط ذكر أيام
الشباب بالوقوف على الأطلال بجامع تغير الأحوال وتبدلها خاصة بين الربع وساكنه،
وسواء كان الشاعر يتحدث عن أيام أو ليالي فإن ذلك داخل في التقليد العام للسَنن
العربي، مع ملاحظة أن الشاعر – أي شاعر – حين يتذكر الأيام فهو يتذكر صورا حاضرة
يُساعده الضوء في تبينها ورسم ملامحها، أما حين يكون حديثه منصبا على الليالي فإن
الأصوات ستكون المسعف الأساس لذاكرة الشاعر أو لتخيله.
وفي حالة ابن الشيخ
سيدي هذه فقد اختار الليالي أولا ثم ثنى
بالأيام مفردة على شكل قصة أو موضوع لكل يوم، بينما اكتفى بالليالي مجملة دون
تفصيل مركزا على الصوت في حوار يفترض طرفه
متقولا ما يتوقع منه، ثم يرد عليه ويحاججه متخلصا من الليل وظلمته إلى النهار وضوئه
ومن الصوت إلى الصورة ومن الادعاء إلى الاستدلال، ومن العدم (لم تقل، خفي حنين)
إلى الوجود في قوة التحكم في الآخر (عدم استطاعة الفاليات مفارقته) يقول:
ليالي لا أحاذر أن ألاقي صدودا من سعاد ولا بثين
ولم تقل العذارى أنت عم نعدك عندنا أحد
الأبين
تحن إلى الشباب ولست منه على حظ سوى خفي حنين
فقلت لهن إن يك وخط فودي يسوء الفاليات إذا فليني
فكم يوم يعز على الفوالي به مني فراق المفرقين
وكم يوم وترت به العذارى كيوم مهلهل بالشعثمين
يجبن إذا دعا الداعون باسمي كأني عندهن ابن الحسين
تلاحظني العبور مع الغميصا فآنف عنهما للمرزمين
وإن أبدت لي الجوزا وشاحا سلكت بها سبيل الشعريين
وإن تشر الثريا لي بكف خضيب قلت عنى للبطين
وحيث بنات نعش درن حولي تركت وصالها للفرقدين
وكم شمس بهالتها تحلت ولاحت بالزوال خلال غين
وبطبيعة الحال فإنني
غني عن القول إن هذه الفقرة من النص عرفت تناصا تاريخيا مع قصة "خفي
حنين" المشهورة في التاريخ لتعميق معنى العدم في النص، في مقابل تناص يعمق
معنى الوجود في قصة المهلهل بأحد أيام العرب وهو يوم الشعثمين، وتأكيدا للوجود والحضور
الفاعل يستدعي سيدن رمز العزة زين العابدين ابن الحسين ابن علي ورمز الاعتزاز
بالنفس في إحدى أهم فترات التاريخ العربي وهو المتنبي .
كما عرفت تناصا مباشرا مع الأعمى
التطيلي 485 -
525هـ / 1092 -
1131 في تصويره لشيب المفرق، وإن كان التطيلي صرح باسم الفالية وبالبكاء نوعا
للإساءة، بينما اختار سيدين الإجمال فيهما
يقول التطيلي :
بكتْ هندُ من ضِحْكِ المشيب بمفرقيَ أمَا عَلِمَت أنَّ الشبابَ خِضَاب
وقالت غُبَارٌ ما أَرى وتجاهلت وليس على وَجْهِ
النّهارِ نِقَاب
هل الشيبُ إلا الرُّشْدُ جلَّى غوايتي فأصبحتُ لا يَخْفَى عليّ صواب
ومم يؤكد فرضية التناص
المباشر أنه في البيت الواحد والثلاثين
تماهى مع التطيلي في الضرب صفحا عن الصويحبات الأرضية والتعلق بالنجوم في منازلها
علوا لللهمة وشموخا للرأس وتزكية للنفس
فإن تذهبِ الشّعْرى العبورُ لشانها فإن الغُميصا في بَقِيّةِ شان
وجن سهيل بالثريا جنونه ولكن سلاه كيف يلتقيان
وفي البيت الأخير حوار مع بيتين
آخرين مشهورين في أوساط المحاظر الشنقيطية شاهدا على يقول الشاعر :
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يماني
v
الخيانة : يكثر
الشعراء العرب من الحديث عن عدم الوفاء بعد ذكر الصاحب أو الصاحبة أو هما معا
للإشارة إلى معنى إنساني راسخ وهو حيرة الإنسان بين اتخاذ الخلان كضرورة نفسية
واجتماعية مع تحمل ما يفيض به التاريخ من قصص عن الخيانة، وبين العيش وحيدا – إن
أمكن ذلك – معافى من تلك الأمراض الاجتماعية الناجمة عن الخِلطة مع الناس يقول :
ولا عجب إذا خنتن عهدي وآثرتن إقصائي وبيني
فقد خنتن في القدماء عبديـــــــــــــــــــــــــــــن
قبلي للمهيمن صالحين
وفي البيت الأخير
إشارتان الأولى تناصية مع الآية الكريمة التي ضرب الله فيها "مثلا للذين
كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما، والإشارة
الثانية دلالية في تأويل التدوير بين الصدر والعجُز في البيت للدلالة على أن
الخيانة لم تنقطع بل هي متواصلة في الزمن الحاضر وفي الأزمان التي تليها وهلم جرا.
وتسري في النص همة لا
تخطئها العين ليكون مترابط الأجزاء من خلال تساوق أجزائه بمنطق معين؛ والاستعانة
في ذلك بوسائل أسلوبية وأخرى فنية مثل حسن التخلص البادي في الانتقال من مرحلة
الشباب وأحوالها إلى مرحلة الكمال العقلي المدعوم بالعزم على عدم الارعواء سبيلا
للبدء في حديث من نوع آخر بمتطلبات أخرى ومواصفات كهل عليم حكيم مجرب يقول متخلصا
من غرض النسيب إلى الفخر :
ومن شرخ الشباب اعتضت حلما وحال
الحلم إحدى الحسنيين
وكنت إذا عزمت على ارعواء وجدت عزيمتى إسراء قين
وفي البيت الأخير تناص
ثقافي غير مباشر مع مثل عربي "إسراء قين" ويعني تجديد العزم ونقضه؛ ففي
كل ليلة يُبيِتُ القين نية السرى ولكن انبلاج الصبح ينقض عزمه، وكذلك الإنسان
الشاعر كلما عزم وارعوى عن طفح الشباب وجد نفسه مرة أخرى يقترف من الأفعال
والأقوال ذاتها، ولهذا المثل مشابهات كثيرة في الثقافة العربية عموما والشعبية
خصوصا، فكما أن "كلام الليل يمحوه النهار" فإن أبناء
"الزوايا" المشتغلين بالعلم والمعارف في تقاليد المجتمع مطالبون بالعزم
على تحصيله مهما كانت ظروفهم غير مساعدة على ذلك، حتى أصبحت عزيمتهم مضرب المثل في
التجدد "أشمار ول ازواي فلكرايه"
v
طبيعة التكوين المحظري
وأثرها في استحضار النصوص (التناص)
يستظهر الطالب المحظري
متونا علمية في مختلف العلوم، مصحوبة بشواهدها شرطا في عرضها على الشيخ لشرحها وحل
مغلقها، وربطها بالتفريعات العلمية ذات الصلة؛ ويعتبر الاستظهار والحفظ في مراحل
عمرية مبكرة مساعدا على حل كثير من مشاكل الإنسان الصحراوي الذي كان يترحل دوما
خلف الأمطار طلبا للنجعة، كما كانت تنقصه وسائل الدرس المعهودة، فكان النظم والشعر
بحكم سهولة حفظهما أقرب إلى حياته وأسرع إلى ذهنه حفظا واستدعاء؛ انطلاقا من ذلك
وبناء عليه يمكن للناظر في نونية ابن الشيخ سيدي أن يلحظ – دون عناء – تلك
الفسيفساء من النصوص المتراكبة شعرا ونثرا، لكنه حتما سوف يدرك أن أغلب تلك النصوص
الشعرية وصلت ذهن الشاعر شاهدا على قاعدة نحوية أو صرفية، أو تقييدا لفائدة فقهية،
أو إبرازا لنكتة بلاغية من ذلك مثلا :
·
أن امرأ القيس نال
شهرة واسعة ومكانة مميزة في تاريخ الشعر العربي وحاضره بسبب فهمه الذائقة العربية
وما تطمح إليه في الشعر، أو قل توافق هواه مع هوى المتلقي العربي خاصة في الغزل
والنسيب والوصف، لكن له هنات في مجال التجربة الاجتماعية والاقتصادية جعلته محل
تندر من النقاد والعارفين بحياكة القول أشكالها ومضامينها؛ ففي قوله :
ولو أنما أسعى لأدنى
معيشة كفاني - ولم أطلب- قليل من
المال
ولكنما أسعى لمجد
مؤثل وقد يدرك المجد
المؤثل أمثالي
علوُ همة يتناسب مع
مقام أبناء الملوك، وأبناء الشيوخ في قول سيدن :
وحسب المرء نيل غنى
وجاه وهل يسعى الرجال لغير ذين
لكن سؤال ابن الشيخ
سيدي يستبطن ويستحضر هنة امرئ القيس وكبوته التي لا تليق بأمثاله في قوله الأشهر :
ألا إلا تكن إبل
فمعزى كأن قرون جلتها العصيُ
إذا مشت حوالبها
أرنت كأن الحي صبحهم نعيُ
تروح كأنها مما
أصابت معلقة بأحقِيِها
الدُليُ
فتوسع أهلها أقطا
وسمنا وحسبك من غنى شبع وري
ومصدر ارتباط الشاعر
بالأبيات واستحضارها أن البيت الأول منها شاهد نحوي على ورود كان تامة لا تتطلب
إلا فاعلا، بخلاف الناقصة التي تقتضي مرفوعا ومنصوبا كما نص عليه محمد ابن مالك في
ألفيته :
ترفع كان المبتدا اسما
والخبر تنصبه ك"كان سيدا عمر"
·
وغير بعيد من ذلك علق
شاهد الفرق بين فعل الأمر واسمه عند شراح ألفية ابن مالك – وهي النص الأساسي
لتدريس النحو في المحظرة – بذهب الشاب اليافع المتقد ذكاء، وما زال الشاهد يدور
بذهنه حتى صاغه بشكل آخر وفي منحى تعبيري عن مضمون آخر وهو التغني شوقا بأماكن الحج وطريقه ومنها الدهنوين
في قول سيدن :
فقد منيتني قبل
المنايا مرور ركائبي بالدهنوين
وذلك عطفا على قول
الشاعر :
يمرون بالدهنا خفافا عيابهم
ويرجعن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جل
أمورهم فندلا زريق المالَ ندل الثعالب
فاسم فعل الأمر
"ندلا" شاهد عند النحاة على أن الأمر وهو اللفظ الدال على الطلب"إن
لم يك للنون محل فيه" فليس بفعل أمر بل هو اسم فعل أمر يقول محمد ابن مالك :
والأمر إن لم يك للنون محل فيه
هو اسم نحو صه وحيهل
أما أمثلة ذلك من
القرآن الكريم ورودا في الشعر بهذه البلاد وغبرها فلا يكاد يحصى ولا يعد تبعا
لمكانة القرآن الكريم في نفوس المسلمين والعرب عموما، أما في هذا النص فإنه ينضح
اقتباسا متناصا مع ألفاظ القرآن مرة ومع معانيه مرارا وذلك فيما يلي :
·
في موقف استجداء الدمع
على الطلل وعدم مسامحة الصحاب بمسكه، والتعويض عن دمعهما بما لديه من الدمع غزيرا غير
مكفكف حفظا للعهد ورعاية للمودة، وقد حضرته للتعبير عن الدفق الشعوري المرسل في
المثنى صورة الجنتين النضاختين في قوله تعالى "فيهما عينان نضاختان"
·
وفي موقف منازعة النفس
وعدم ارعوائها عن طفح الشباب ومراوغة المرء لها بالزمام مرة وبالخطام يقول سيدن
عليه رحمة الله :
ينازعن الأعنة
سالكات ممر الجيش بين العُدوتين
فالشاعر يستحضر موقف
الحرب مشبها الشباب والسفاهة بالعُدوة القصوى، والحلم والعلم والرزانة بالعُدوة
الدنيا في مواجهة بوضح النهار ؛ قد صورها القرآن أوضح تصوير وأجلاه، معطيا الغلبة
- بعد المعركة - للأصلح يقول الله تعالى :
"إذ
أنتم بالعُدوة الدنيا وهم بالعُدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم
في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا"
وكما لاحظنا منذ
البداية حرص "سيدن" على التمسك بمحددات عمود الشعر حتى تخرج قصيدته في
حلتها اللائقة؛ من خلال التزامه ببراعة الاستهلال، وحسن التخلص، واستيفاء المضامين
والأغراض حقها الذي يكتمل معه بناء الشعر،
نائيا به عن الإخصاء أو النقص أيا يكن نوعه، فقد أحسن الختام بمعجم غير
مجاني استخدمه في الدعاء مبرزا عبارة "الختام" و"الحسن"
و"الكتاب" وهذا ما نظر له النقاد تحت مصطلح حسن الختام ليكون آخر ما
يعلق بذهن القارئ أشياء تعطى صورة حسنة عن نفسية الناص ورؤيته للعالم يقول سيدن:
وبالحسن لنا فاختم
إلهي كتاب الحافظين الكاتبين
آمين يا رب العالمين.