لا أكتب اليوم عن الأفلام الشبابية المتسابقة في مضمار " هل تتكلم الصورة " لأن ذلك إما أن يدخل في نصرتها، أو في النيل منها، لكني سأكتب عن فيلم نال ما نال من الجوائز، ولما ينل بعد حظه من "النظر" فيه والكتابة عنه، إنه فيلم " الكولابة " ( مهنة البحث في القمامة ) وهو وثائقي قصير لمخرجه محمد يحي ولد حمود يجمع بين الإمتاع والفائدة، وهي ثنائية قلما تجتمع في عمل إلا ولقي النجاح،
يتحدث الفيلم ( صوتا وصورة )عن تجربة مجموعة من الأطفال في الأحياء المهمشة بنواكشوط يعيشون على تفتيش القمامة لإخراج "النافع" منها حسب تقدير عقولهم الصغيرة، ليبيعوه مشكلين من ذلك عائدا
بسيطا لا يقارن بتعبه ومخاطره إلا حين يكون "مانعا" من السرقة والانحراف .
بطل الفيلم الذي تحدث بشكل متناوب مع حديث الصورة، أخذ على عاتقه مهام كثيرة وصعبة لأنها باختصار تحاول تبرير عمل أقل ما يقال عنه إنه صار بالصحة مع سبق الإصرار والترصد وهذا مكمن الطرافة والإبداع في الفيلم، إذ أن الواقع الذي يحكم كل إنسان بنسبية الزمان والمكان تجعل بطل الكولاب يسعى بوسائله التعبيرية المحدودة إلى التبرير من خلال جملة من الأشياء ترتكز كلها على مقابلة "العمل الذي هو شرف" مع حتمية السرقة البديل الوحيد لعملية الكولبة هذه، ومن مبررات البطل الصغيرة كجسمه وعقله :
1- مساعدة أسرته على العيش
2- الابتعاد عن طريق السوء ( رغم اعترافه أن من زملائه من يسلكون تلك الطريق )
3- الاستعداد للدراسة، إذ أن الدراسة كما يقول " تساعد على الإجابة عن سؤال الله ما ربك "
4- التمتع بالاحترام بين الأهل والجيران، وكما تبدو فإن الرقيب الاجتماعي رغم ممارسته بعض دوره فلم يفلح في ثني الطفل عن عادته الغريبة، حيث يسكت من يسأله أو من يستغرب عمله قائلا " هي أحسن من السرقة "
في مقابل دور الكلمة كانت الصورة عبر الكاميرا تأتي بالأمر على "أصوله" كما يقال، حيث كان من يشرف على عليها، ومن "دبر" الإخراج، وعملية الإخفاء والإظهار، وتناوب التقديم والتأخير، محنكا لدرجة ظهرت معها أحداث الفيلم – أو قل مشاهده – رائعة فنيا وموحية ذهنيا، وهو أمر يعبر عن مستقبل ينتظر "القائم" على العمل إن حصل بعض التراكم من العمل الميداني، والاستزادة من التكوين النظري .
ونحن وإن كنا لا نروم بالكتابة نقل المشاعر والحركات، بدل التوثيق بالصور، فعلى أقل تقدير نكتب لتحية الفيلم ومخرجه، ومن خلالهما دار السينمائيين – أو فضاءهم – على التجربة التي فتحت "الباب" على مصراعيه لولوج الشباب مجال التعبير بلغة الصورة / لغة العصر، من خلال لغة الجسد، والألوان ، والإضاءة، والحركة، لتبقى لغات أخرى موحية داخل العمل السينمائي من مثل لغة الشم والإيحاء وغيرها غائبة إلى حين ....، لكن حضورا لطرافة وقرب المأخذ، ووضوح الجهد المبذول في العمل يقدمان العمل لمزاحمة الأعمال الأخرى في مجاله بل وزحمها أيضا .
ومن المفارقة – والإبداع مفارقة كله – أن بطل الفيلم تحدث عن أشياء فوق قدرته ومستواه وإن كان الأمل والطموح يحدوانه لبلوغها، فهو مثلا يعمل "كولابا" ويدرس ليكون رئيسا للجمهورية، أو على أقل تقدير من أعضاء الحكومة، ومن أحلامه – في المقابل - أن يكون مثل أولئك الذين لا يحسون الضرب لأنهم "شربوا" قوة من الإدمان على الكحول والمخدرات، والمفارقة الكبرى أن القمامة التي تنفق عليها الدولة أكثر من مليار من الأوقية يعود بها "الكولابة" ليلا و نهارا على أكتافهم وحمرهم، لتدخل في "صناعة" الحشايا والصالونات، والسيارات الفارهة التي يتأسف "البطل" على عدم تمييز جهده فيها بسبب الطلاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق