الدكتور أحمد سالم ولد اباه
عرفني الكثير من القراء عبر صفحات الشبكة مدافعا حد المنافحة عن سياسة " تجديد الطبقة السياسية " بل وقبل ذلك حين كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز بلا "أنصار" وإن كان له "مهاجرون" بمبادرتي المعروفة "نعم عزيزouiaziz " والمدونة بذات الاسم، ومن الناس من يعرف وضعيتي كأستاذ جامعي نشط خارج الإطار الرسمي "بفعل فاعل"، رغم تحملي أعباء التدريس مبكرا دون مقابل يذكر مدة سبع عجاف أو تزيد، فنتج عن ذلك أن جنيت على أعداد من طلاب قسم الأدب فتخرجوا مما "لا ينفع"، وقرءوا مؤلفات وكتب ألفتها وغيري في الأدب واللسانيات والثقافة، ضيعوا بها الزمن والجهد وكان الأجدر بهم ، والأسهل عليهم ، و الأجدى لهم، أن يتوجهوا نحو التكوين المهني ليتدربوا على "عمل" ينفعهم في حياتهم اليومية ويزيد من أرباح أربابهم، ومنهم من يعرفني في أطر أخرى كتقنيات الاتصال، ومكونا لمسيري المشاريع الصغيرة على طريقة جيرمGERME ، وفي المجتمع المدني بمنظمة لمكافحة التلوث.
لكني سمعت في أكثر من مناسبة ومجلس بعض المتحدثين عن الشهادات العلمية وفائدتها، والشهادات الأدبية وعدم فائدتها، وأن الوطن يحتاج "العلم" أكثر مما يحتاج "الأدب" والفلسفة والثقافة، وأن هذا هو التوجه العام المعلن هذه الأيام، وحتى لا أقع في الخطأ المقابل وهو نفي فائدة الشهادات التقنية علي أن أسطر شهادة هنا مفادها أن الحياة تحتاج اليوم من المهنيين والتقنيين والمهندسين والأطباء أعدادا يعملون نهارا، لكنهم بالليل يحتاجون لمن "يرفع رؤوسهم" فيحرر أخبارا في الإذاعة والتلفزيون وفي الصحف وعلى الشبكة، ومن ينتج برامج ثقافية ويقدمها بشكل يمكن أن ينافس، يحتاجون لراحة وفائدة، ومتعة ومؤانسة، ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بالأدباء والمثقفين والكتاب الذين يستطيعون تدوين ثقافتهم ويعيدوا إنتاجها عبر الأنواع الأدبية المناسبة لكل قارئ حسب ميوله وتكوينه.
أما إن كان الأمر عزيمة لا مشورة فيها، فلماذا نكلف ميزانيتنا أموالا كثيرة لإنشاء وزارات للثقافة والإعلام والتعليم والشؤون الإسلامية، ولماذا "نسهر" كل ليلة في التلفزيون والإذاعة مع فقهاء وشعراء وأدباء وفلاسفة واجتماعيين، لم نضيع وقتنا ووقت المشاهد "التقني" الكريم، لم لا نسهر مع سمكري أو نجار أو مهندس "يعلم" الناس كيفية تحلية المياه أو صناعة الشموع مثلا، لماذا مازالت أفواج الطلاب تترى على أقسام الأدب والدراسات الإسلامية والفلسفة والتاريخ، بل لماذا لا "نحول" مدارسنا وجامعاتنا إلى مخابز ومناجر ومطاحن تنفع الناس، أرجو ألا تكون سياستنا مثل أسطورة كاتب مصر الذي يقال إن "يده تكتب وأخرى تمحو" كما أرجو ألا يكون مثقفونا سمعوا مثل هذا المنكر الذي سمعت وسكتوا عنه، لأنه عليهم حينها أن يجيبوا عن سكوتهم لفائدة من ؟ وعلى حساب من ؟
ولتمثيل قضية تكامل العلوم في بناء الأمم، عادة ما تشبه الأمة بالإنسان سويا أو معتلا، وللإنسان – كما ترى – جوارح للعمل بما "يعلم " تساعده على العيش والسعي من أجله، رغم تفاوت الناس في استخدامها انطلاقا من مساعدتها بالفكر، أو ترك العنان لها تسعى من دون مساعدة، لكن أحدا قط لم ير يدين تعيشان ولا تعيثان وحدهما، بل تحتاج إلى مركز للتحكم (دماغ ) ومخزن للطاقة (بطن) ووسائل اتصال (لغة ) منطوقة وإشارية، بالإضافة إلى هذه المسائل يحتاج جسم الأمة إلى روح وهذا مربط الفرس ولا سبيل إلى إنسان متكامل روحا وجسدا إلا بالتنمية الاجتماعية والتربية الإسلامية، والانتماء إلى ثقافة شعبية أو عالمة تنتج النصائح في شكل حكاية، والتجربة في شكل قصة، والتوجيه في شكل نكتة .
وفي الأخير أزف البشرى لحملة الشهادات الأدبية، حيث إن توظيف العلميين والمهنيين والتقنيين يخلق بالضرورة حاجة ذاتية إلى شهاداتهم وخبراتهم ونظرياتهم وترهاتهم ، وقصصهم ورواياتهم، وهل تقدمت الأمم والمجتمعات دون ثقافات وآداب، علينا أن نتذكر دائما ما ألهمت الثورة الصناعية الأدباء والكتاب من تجارب جسدوها في أعمال عالمية ، أعادت إنتاجها واستلهامها ثقافات كثيرة في أنحاء المعمورة حتى اليوم، وأن نتذكر أيضا أن المثل الأعلى اليوم وإن كان ماديا فلا يعني أنه كذلك غدا، كما لا يعني أن نتخلى عن رسالتنا وثقافتنا، لأننا حينها نشل جسمنا بأنفسنا، حقا إن ما يقال لا يتجاوز ذرا للرماد في "العيون" وأنه كما قال المثل الحساني "لا يجعل أحدا يترك أذن حماره" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق