مدح المصطفي صلى الله عليه وسلم: من المأثور إلى "الكرزة"

د/ أحمد سالم ولد اباه

تتخذ هذه الورقة هاجسا لها كشف الصلة بين ظاهرة المدح أو التمجاد مع بعض التراكمات الثقافية الأصلية من جهة، وبين تمظهرات بعض الأنماط والخصائص التي تحاور الظاهرة ، ليس على مبدإ التراكم فحسب وإنما على أساس المنافسة والتطور.

إن ظاهرة المدح ـ والمدح المغنى بخاصة ـ بما تحمل من خصائص نوعية تستحق التوقف معها لاستبيان بعض مظاهر الجدة فيها ، وما تخدم من تكريس النموذج السائد في جوانب أخرى منها، ولقد أبدع المجتمع الموريتاني الأول نسقا ثقافيا متكاملا يشترك فيه ثالوث الموسيقي حاضنة، والشعر الحساني مادة ، والإنسان مرددا وشاديا تستخفه الألحان وتطربه المعاني حتى يهتز جسمه رقصا، ويتصبب عرقا ، فيدخل الجنة، وعلى رأي "رينيه ويلك" فإن الفنون الأدبية عامة إنما هي " مؤسسة اجتماعية أداتها اللغة وهي من خلق المجتمع ووسائله الاجتماعية في طبيعتها، إنها أعراق وأصول لا يمكن أن تبزغ إلا في مجتمع"1، ولذلك فإن الشعر الموريتاني الحساني كصنوه  الفصيح قد أنتج مديحا نبويا له أبنيته المختلفة كما يبرز اختلافه في اشتماله على الأبنية الفكرية والفنية التي تطبعه بخصوصيات هذا المجتمع ، ولكنه يحتفظ لنفسه بالقواسم المميزة له عن غيره من الفنون الأدبية المحلية ، إذ أنه يخضع لمقياسين: هما علم العروض ، ومسطرة الموسيقي الحسانية، فكل بحر له ظهره الذي يركب له وأحاسيسه التي تناسب القول فيه، فرحا، وخزنا، والشعر الحساني إلي ذلك ـ بما هو مادة المدح ـ لا يعبر عن معان فقط بل هو عبارة عن أصوات ، فالقصيدة أو الطلعة لا تهمنا موسيقاها وألفاظها بقدر ما نستقبل دلالتها ، حيث إن الشاعر في تشكيله للمادة الحسية والصوتية إنما يحاول أن ينقل إلينا عواطفه ومشاعره نقلا مثيرا عن طريق النغم والألحان .

ولقد كانت الآثار الواردة في فضل مدح النبي صلى الله عليه وسلم تشد إزر الشعراء والقوالين والمنشدين في مختلف الأزمنة وشتى الأمكنة وفي مستويات معرفية واجتماعية متفاوتة .

وانطلاقا من كل ذلك فإن الورقة ستكون من الناحية الإجرائية على النحو التالي :

المحور الأول:  المدح : تعريفه ومظاهره

المحور الثاني:  المدح:  الظاهرة المتفق عليها

المحور الثالث:  المدح:  صياغة للرسالة في شكل حديث

المدح : تعريفه ومظاهره

جاء في لسان العرب لابن منظور"المدح نقيض الهجاء وهو حسن الثناء فيقال مدحته مِدحة ، والمدح هو المصدر، والمدحة الإسم، والجمع مدح، وهو المديح والجمع المدائح والأماديح والأخيرة على غير قياس قال أبو ذؤيب:

لو كان مدحة حي منشرا أحدا            أحيا أباكن يا ليلى الأماديح

والمتتبع للمراحل التاريخية التي مر بها غرض المديح يجد أنه بدأت استيحاء لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشأ حسان في ذلك القصائد الطوال، وكذا فعل كعب ابن زهير في التلذذ بإدراك حاسته العقلية والقلبية للمعاني الشريفة من حبه صلى الله عليه وسلم ، غير أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قيد الحب بالمقصود هنا بأنه يقتصر على الحب اختيارا لا طبعا ، فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة أنت أحب إلي من أهلي ومالي ، فأجابه صلى الله عليه وسلم لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك .

ولقد تبارى الشعراء من بعد ذلك على ذكر ما يجدون في أنفسهم وما يعتمل في صدورهم من حبه من أمثال البوصيري والبرعي  و غيرهما ، وقد اتفق جميع مدحه صلى الله عليه وسلم على شيء واحد أن المعاني السامية في مدحه لا يمكن استنفادها واستيفاؤها .

أما في هذه البلاد فقد اعتنى شعراء كثيرون بهذا الغرض فأنشأوا القصائد الطوال من أمثال محمد ولد محمدي في قوله : 

إن لاح من عهد الصبا منزل قفر                   بكيت وفي بعض البكا وضح العذر

سلام على من خلف السبع سائرا                    ووافى ووجه الصبح من دونه ستر

ومولود ولد الجواد من مثل قوله :

أزكى صلاة وتسليم على قمر                     بدر به قد أنار الله أكوانه

ومحمد اليدالى الديماني حين قال:

     صلاة ربي مع السلام                     على حبيبي خير الأنام

بادي الشفوف داني القطوف                    بر عطوفي ليث همام

ولئن كان جل هؤلاء المادحين قد ركزوا على وصفه وذكر أخلاقه وسيرته في قومه، احتذاء وتقليدا للبصيرى زعيم شعراء القرن السابع الهجرى فإنه كما يقول محمد المختار بن اباه كان الشاعر الموريتاني يقلد ولكن في تقليده أصالة"

ومن تلك الأصالة الممزوجة بالطرافة ومحاولة التجديد نص محمد اليدالي السابق الذكر المعروف ب" صلاة ربي" الذى يدل بجلاء على أن العملية التي تزعمها محمد ولد أحمد يوره لخلق تواصل ثقافي بين المعرفة العليا ممثلة في الشعر والفقه والتصوف، والثقافة الدنيا ممثلة في "لغن " والأمثال والتقاليد  الشعبية كانت ناجحة في جانبها المضموني المعروف ب "ازريكة " ولكن جانبها الشكلي الناجح على مستواه لم يحظ من الاهتمام بما يلزم، فلقد كانت هذه الكرزة التماس الأول بصورة مباشرة بين الأشكال الشعرية الخليلية والأنماط الشعرية للغن الحساني، فالمتأمل في الكرزة المذكورة أعلاه يلاحظ ما يلي :

1-  الكاف

صلاة ربي           مع السلام

على حبيبي          خير الأنام

2-  الطلعة

بادي الشفوف     داني القطوف

بر عطوف        ليث همام

وكما هو واضح فإن الكاف يتكون من أربع شطرات تتناسب الأولي فيها رويا مع الثالثة، والثانية رويا مختلفا مع الرابعة ، بينما تتكون الطلعة على ما هو معتاد من ثلاثة مصاريع على روي واحد، وخرجة تتفق مع الشطرة الأخيرة من الكاف.

إن ما يميز كرزة محمد اليدالي كون القوالب العروضية الحسانية مملوءة بالشعر الفصيح غير أن ما نحن بصدد التنبيه إليه ليس عمليات التخصيب المختلفة التي حدثت في هذه البلاد لمجمل المظاهر الثقافية فيما بينها، بل إننا نزعم أن كرزة محمد اليدالي هذه كانت الملهم الأول للتحول الأبرز في نمط المديح من الشعر إلى لغن ، ومن المأثور إلي الكرزة، ومن العالِم إلي الشعبي، غير أن اعتبار نص محمد اليدالي الشرارة الأولي، لا يعني أن المثيلات اللاحقة عليه كانت متسقة إلى حد التماهي ، وإنما باختلاف المناطق في هذه البلاد وتباعد الشقة فيما بينهما يكون اختلاف المروي والمردًد، وبالتالي يختلف المحكي غير أن الجادة في كل ذلك تبقي واحدة .

وفي أيامنا هذه وبعد حصول اندماج اجتماعي من نوع ما في التجمعات السكنية الكبري كحالة العاصمة انواكشوط ، قإن نمط المدح أخذ صبغته الجديدة التي تميل نحو التقريب من الوحدة، وتتعمق الطرق المتفق عليها فقط لإشاعة المدح ومصاحبته بآلات موسيقية حديثة مثل "الكيتار" ، ولقد كان ارتباط المدح النبوي بالآلات الموسيقية التي يحلو للبعض تسميتها بالمزامير ، تنويعا يجد له السند والأصل في التاريخ الإسلامي الممتد من العصور المزكاة إلي أيامنا هذه، فقد ارتبط دخول المصطفي صلي الله عليه وسلم إلي المدينة المنورة قادما في المرة الأولى، وعائدا بالظفر من غزواته بعد ذلك بترديد اللحن المعروف " طلع البدر علينا " وهو لحن تردده فتيات من الأنصار بمثابة النشيد الوطني ، ويدل ذلك بجلاء علي أن اللحن يعتري السياق ، وأن مدح المصطفي فوق الشبهات ، ويقال مثل ذلك عن نشيد الخندق، وعن رقص الأحباش ولعبهم وعائشة رضي الله عنها تنظر إليهم .

وفي الأزمنة اللاحقة فإن السماع قد ارتبط بالذكر، وارتبط اللحن لدى أغلب المتصوفة بالغذاء الروحي، ورغم كل ذلك فإن الخلاف قائم ، ونحن وإن كنا لا نطمح إلي الفصل بين المختلفين، فإن المتداول أن السياق أو العارض هما ما يتعلق به حكم السماع والمزامير واللحن ، وإن دخلت كلها في الذكر والتلاوة.

وغذاء أرواح ا لمتصوفة والقاعدة لديهم الاستحسان وللذة لا يجتمعان بالضرورة ولا بالنظر.

ولاشك أن مدح  النبي صلى الله عليه وسلم  بهذا المفهوم يدخل ضمنه التغني ب أوطانه "الحرمين" وصفاته "نبي الرحمة" ومن باب أولى بأسمائه "النذير" "شفيع الخلق" غير أن ما ذكرنا من شيوع المتفق عليه لا يعني  خلو ثنايا المدح من الخروج على المتفق عليه موسيقيا ، إذ أن هناك ترجيعا في أغلب المدحات لم يعد مستخدما في المسطرة الموسيقية الحسانية المتداولة ، وكذالك فإن المضمون المعرفي كثيرا ما تدخل عليه بعض الخروجات الحماسية لتفعيل دور المتلقى تصفيقا وتفاعلا فيمزج بالغزل كقولهم :

والله ثـــــــــــم واللـــه       كــون إلعاد أمــــر اللـــــه

مـــــــــــا نترك عز البخيـــلمـــن الســــــماء  أنــــــزيل

ولعل ذالك من باب الاستجابة لما جاء  في الأثر لا تمدحوني بخصي الشعر

المحور الثاني : المديح النبوي الظاهرة المتفق عليها

علينا لإشارة في البدء إلى معنى الاتفاق المذكور على ظاهرة المدح يعني عندنا أنه لاتوجد جهة من مختلف جهات البلاد لا تمارس المدح وإن بشكل يختلف نوع اختلاف عن باقي الجهات الأخرى، وكذالك فإنه بالنسبة للزمن، لم يشهد زمن من التاريخ الموريتاني الخلو من المدح وحضوره وسماعه والتأثر به ، فحين كان الاشعاع الثقافي مرتبطا بالطرق التجارية ومسالك الحج كانت مدن شنقيط  و وادان تحي هذه العادة الحميدة في المواسم الدينية مثل رمضان وفي المولد النبوي الشريف، وموسم الحج، بل ومازالت الظاهرة ماثلة إلى اليوم في مسجد شنقيط العتيق، حيث يقوم المسنون بترديد الأصول المعروفة للبصيري و البرعي و ميمية للبصيري، و "صلاة" محمد اليدالي .

ولقد ساعدت الطرق الصوفية في تكريس وتطوير ظاهرة المدح كل على طريقته الخاصة  وبما يخدم أهدافه العرفانية والإنشادية.

وكذالك التنوع البشري للسكان ساعد على تعميم ظاهرة المدح رغم الفروق في المستويات الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية ، فلكل مستوى من الناس مدحه الذي كان يركن إليه عند الإحساس  بالحاجة إلى ربط الصلة مع الشفيع ولم تسجل حوادث التاريخ اعتراضا على مدح مادح  أو تفضيل طريقة على أخرى، بل كان الناس في مجملهم يتحملون قطع المسافة لحضور جلسة مدح، ويقطعون المسافات الطوال وهم يتعللون به لملئ الفراغ كحالة الرعاة مثلا.

إن حالة الارتباط هذه التي طبعت ظاهرة المدح ، ومجتمعنا الموريتاني تتيح إمكانية القراءة المزدوجة ، بمعنى أن المادة توفر الفهم للجوانب المعنية في الشخصية الموريتانية من خلال المدح النبوي خاصة حين يتعلق الأمر بالترديد الفطري ، كما تتيح القراءة المتأنية معرفة المجتمع حقا بشرط القدرة على تحليل المادة الثرية للمدح النبوي في هذه البلاد.

 ينبغي أن نشير إلى أن المدح والقول على نمط المديح استخدم أيضا  في توصيل الرسالة المحمدية وتعاليمها بمختلف جوانبها المضيئة مع الثقافة الشنقيطية وقراءة وتفسير الشناقطة إلى غرب إفريقيا ، ويكفي للتدليل على ذالك التأثر الجلي للشيخ أحمدوا بمب البكي بشيخ المداحين الشيخ محمد اليدالي  الديماني .

ومن خلال تتبع جملة من النصوص هنا وهناك تتحصل القناعة بصدور المداحين عن مقولة القاضي عيا ض في كتابه الشفاء - وقد كان منتشرا انتشارا واسعا في بلادن - " أن النبي صلى الله عليه وسلم جامع لكل معاني الكمال الخلقي والخلقي، ولذالك فقـد اسـتوجب المحبـة الحقيقـة شرعا وعادة وجبلًة"  .

المحور الثالث : صياغة رسالة المدح في شكل جديد

يعتبر المؤشر العام لتطور الحياة الاجتماعية الآخذ في التسارع مقدمة حتمية للتخلي عن العادات التي تحتاج الجلسة المستلزمة لبعض الوقت وللتؤدة ، وهو أمر يهدد جملة من المظاهر الثقافية المنبثقة عن وفرة في الوقت كالشاي الذي لا يعتبر شرابا فحسب ، وإنما هو نسق ثقافي يحمل معه جملة من المحمولات مثل رواية الشعر وتذاكر المعارف والآداب والأيام والترنم بالمدح النبوي، ولقد أحس بعض المهتمين بالشأن الثقافي ذالك الخطر المحدق بالمدح وما شابهه ، فأقيمت بعض التظاهرات لتثمين المدح وتبيان موقعه في الثقافة المحلية وخصائصه ، غير أن جمع النصوص وتصنيف المهتمين ، وتشجيعهم على جعله هدفا لاوسيلة،  لايفي بالغرض إذ لابد من صياغة رسالة المدح في شكل جديد يتناسب مع السرعة والاعتماد على الصورة و الثقافة الرقمية لدخول حلبة المنافسة مع الثقافة المكتوبة والشعبية .

من كل ذالك فإننا نسعى لإبداء ملاحظة مفادها أن المتلقي في الزمن الحديث بات شرطا لنجاح أي رسالة أدبية، وعليه فإن من يعتمد على سوقه الضيفة لتسويق نفسه سيجد نفسه معزولا، ومن ثم فلا بد من تقديم الذاتي في أخص خصوصياتها إلى الآخر إذ أنها مصدر الجدة ومحط المنافسة ، فلم يعد هناك مجال للمحلية والتقوقع والتمركز حول الذاتي، لقد كسرت شبكة المعلومات كل أعراف التواصل والرقابة والخصوصية، حين دخلت في كل بيت، فلمَ نحرم ثقافتنا الشعبية من أخذ موقعها خاصة في شكل مدح نبوي يدافع عن المصطفى ويعرٍف به  عبر رؤية متدينة بالفطرة ، تخلومن كل الشوائب والأغراض المشبوهة .

ومن مظاهر صياغة رسالة المدح النبوي في شكل حديث مرضي ، مراجعته لتكميل ما يُحتمل من نقص في ألفاظه ومعانيه، وما قد يلحقه من تحريف خلال تداول النصوص على مر الزمن .

ومعالجة النواقص الموجودة على مستويات  متفاوتة تبدأ من  العقيدة حتى انحراف الوزن، وهي أمور نتجت عن تطاول العهد، وكذا عن تناقص رواته ورواده الحقيقيين يوما بعد يوم ،  غير أن السبب الأكبر لتلك الانحرافات هو غياب مواكبة الفئات المثقفة من هذا المجتمع للمدح النبوي ، إثراء، وتصحيحا ، ونقدا ، وهي مسؤولية الاحتضان التي كان التخلي عنها في الماضي غير مبرر ، وقد أصبحت اليوم أكثر إلحاحا في الجو العالمي المطبوع بالمنافسة التي تحتم البقاء للأصلح .