(بحث قدم لندوة تيكماطين للفكر الإسلامي)
منشور ضمن
أعمال الندوة وضمن كتابنا الثقافة والعولمة مقاربات نقدية مدارها النص
إعداد:
د/ أحمد سالم ولد اباه
المقدمة:
يلعب الانقسام المذهبي دورا كبيرا في عدم المدارسة
والمثاقفة بين مذاهب الإسلام ونحله المختلفة، وهو ما سبب الكثير من القطيعة التي
تسبب الجهل أو لنقل التجاهل بين تلك المذاهب، فحينما اختفت وطأة التباعد المكاني
واللغوي بين المسلمين بفضل النشر والترجمة ووسائل الإعلام، وجدت آفة القطيعة
والتفاضل والتكفير وهي لعمري نقمة سببت الكثير من جهل الآخر ورميه بمختلف الأوصاف
غير الناتجة عن الدراية بل على العكس من ذلك حين نعرف الناس ننصفهم ونجلهم ونكبرهم
وحين نجهلهم لا نعطيهم حقهم.
الأسطر التالية إذا محاولة لاكتشاف علم من أعلام
الثقافة العربية غير عربي الوطن، وقائد ورمز من رموز الإسلام، أدخل فيه ولم يخرج
منه أضاف إليه ولم ينقصه، اكتشافه من خلال مقوله الشعري مقارنة بما وصل إلينا من
شعر التصوف الأول والوسيط، نكتشفه من خلال معرفة مسألتين اثنتين: ما هي تجليات
الخصوصية في شعره؟ وما الذي يظهر فيه الاستمداد سواء من الثقافة العربية أو
المحلية أو ربما أفيض به عليه ولم لا ؟! وتتمفصل هذه
القراءة إلى ثلاثة أجزاء:
في الجزء الأول: نحاول الاتفاق على
الاصطلاحات الواردة في العنوان من خلال ترويضها والتعريف بها والترجمة لموضوع
القراءة.
أما في الجزء الثاني: فنركز فيه على
تتبع مراحل القول عند المتصوفة وخصوصية أدب التصوف وأنواعه في مراحل التاريخ
الإسلامي المختلفة.
وفي الجزء الثالث: نلج عالم القول
الشعري الممزوج بالتصوف لمعرفة ما هو الأصيل وما هو المستمد في تجربة الشيخ
ابراهيم انياس.
كل ذلك نعتمد النصوص كاشفة دون أن يعتمد على السرد
التاريخي، كما يعتمد المقارنة لكشف المتفق عليه والمختلف حوله في ثنايا تجارب
المتصوفة الشعراء.
وككون الخاتمة لحصر جملة من الملاحظات المستنتجة
من معايشة الموضوع، وثبت مراجعه ومصادره.
المبحث الأول: تفكيك العنوان/ ترويض المصطلح.
حتى وإن كان العنوان وصلني بشكله الحالي أدب
التصوف بين الخصوصية والاستمداد، بمعنى أنه لم يكن لي دخل في اختياره أو في
صياغته، فإنني أرى لزاما علي أن أبدي ما أفهم فيه عند سماعه وما أريد من خلاله عند
الاشتغال به.
يقصد من وراء إضافة الأدب إلى التصوف عادة عن
المتخصصين وأهل الشأن الإشارة إلى نوع من التلاحم بين عالمين ليسا متنافرين أصلا،
هما عالم التحليق الخيالي والتزويق واستخدام الألعاب اللغوية والتمثيل البلاغي من
جهة فن القول، وتجريب دور الذوق، وعروج المقامات والاعتماد على المكاشفة والهيام
بالذات العلية والشوق إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وينتج من إضافة العنصرين إلى بعضهما لون من القول
الشعري له خصوصيته ومن يهتم به ممن يختلفون في توظيفه بعد ذلك، فمرة يكون غاية في
ذاته يعكس الهيام والشوق والصبابة بل إلى حد ما الهلامية، ومرة يكون هدفه التعليم
والتربية، فهم حينئذ يقصدون من وراء نظم الشعر نفعا لمريديهم وطلابهم، وانقسام
الناس المهتمين بالأدب الصوفي إلى القسمين السابقين يدعمه أنه لا بد أن تهتم
بخصائص الجزء الأول من المتضايفين فتكون من هواة الإمتاع وهم من يرى أن الأدب لغة
تجد غايتها في ذاتها. أو أن تهتم بالجزء الثاني فيكون هدفك منه نشر معرفة أو وجهة نظر ما.
وبالجملة فإن نتيجة تضايف الكلمتين أصبح مشهورا
إلى المستوى الدارجي، وجذابا للاستمتاع به، ومفيدا لوصول المريدين من خلاله، لكن رغم كل
ذلك لم يحظ بالدراسة النقدية اللازمة، وهو ما نتوسل إليه بهذه القراءة.
ويأتي الجزء الثاني من العنوان ليؤكد على حضور
الثنائية بين كون الأدب عند المتصوفة له خصوصية عليها يتأسس وبها يجد شرعية وجوده،
وككل الكائنات الحية فهو يتبادل التأثير والتأثر مع جملة من الميادين التي تقربه،
فهو من ناحية كونه أدبا يستمد من أجناس الأدب المؤثرات المختلفة بحكم نوع القرابة،
ولكونه متعلقا بالتصوف فإنه يبدي ما للمتصوفة من أحوال ومكاشفات وبوح وشوق وهيام
وهو يتأثر مع ذلك بباقي فروع العلوم المتعلقة بالأديان والنحل، وعلى وجه الخصوص
بالدين الإسلامي ومذاهبه ونحله.
أما مكونه الموضوع الثالث فهي الموضوع أعني موضوع
القراءة، إذ كان من الممكن أن ندرس النصوص ونستنطقها على الطريقة البنيوية بموت
الكاتب لكن التعريف بصاحب هذه النصوص سوف يفيد كثيرا في إطار القراءة ولذلك فنحن
بادئون به ومقدمينه عليها، وللتقديم معناه الرمزي عند هؤلاء.
اسمه ونسبه:
هو الشيخ ابراهيم بن الشيخ عبد الله بن السيد محمد
مدنب بن بكر بن محمد الأمين بن صنب بن الرضي بن شمس الدين ميسين بن حميد بن حبيب
الله بن الرضي بن إبراهيم بن الصادق بن صفر بن يتون بن أدعت بن ماكمب بن عقبة بن
نافع بن عبد القيس بن عقيل بن عامر(1)
جهوده وجهاده:
جدد الطريقة التجانية في إفريقيا، وبذل جل حياته
في الدعوة والجهاد ذائدا عن وطنه وغير ناس بلاده الكبرى دار الإسلام، ذاع صيته
وطار خبره في الآفاق فأقبل عليه المريدون والمادحون والمعوزين كل يبغي طلبته، فنول
الجميع بتصدير المريد وتطيب خاطر المادح، وجبر ضعف المعوز.
مكانته:
يمثل الشيخ ابراهيم نموذجا فذا لكونه يختزل مدارس
مختلفة، فهو يمثل المتصوفة في هيامه بالذات العلية، وحبه اللامتناهي لحضرة الوسيلة
إليها الفاتح لما أغلق وهو من ناحية أخرى يمثل مدرسة المديح النبوي بما عهد عنها
من تنزيه وتشوق وطلب للوصل وحرص على تتبع الأثر والوقوف على المنازل والمعاهد، وهو
بروح العالم المربي والشيخ المرشد يمثل المدرسة التعليمية خير تمثيل في شعره.
فكيف صدق الاسم على المسمى وكيف أخرج المعاني من
معادنها؟
وكيف بدت مكانته وطريقته على صفحة قوله الشعري؟
وهل يغلب على شعره التعود أم هي روضة تزهر فيحين
ربيع تساقطها؟
المبحث الثاني:
خصوصية أدب التصوف
يدور الخطاب الأدبي عند المتصوفة على تأمل الجمال
الأبدي بوصفه "الوسيط الذي يكتشف
به الجمال غير المخلوق لذاته، ممارسا إيجابيته الخالقة، وطبيعي ألا ترتبط هذه
الخالقية لوظائف المرأة المادية، وإنما ترتبط بخصائصها الروحية التي تخلق الحب في
قلب الرجل، وتجعله يبحث عن الاتحاد بالمحبوب الأقدس (2)
لكن تمثيل الخطاب الأدبي الصوفي لهذه الحقيقة
مختلف فبينما ينحو قوم نحو التعليم به، نرى آخرين يهيمون فيه على وجوههم حائرين لا
يريدون الوصول به إلى أي شيء بل هو هدفهم، ولذلك فإن شعر هؤلاء ينقسم إلى قسمين:
أ –
القسم التعليمي: ويهدف إلى تواصل
مباشر مع المتلقي الذي يمكن أن نطلق عليه (المربى) أو المريد أو غير
ذلك من الأوصاف التي تنزل له منزلة طلب المنفعة مباشرة أو بواسطة الدربة والتعلم
كوسيلة.
وفي هذه الحالة فإن النصوص لا تنتج المعاني وإنما
تنظمها بهدف نقلها ميسرة الحفظ والفهم على من خلق لها، انظر إلى قول بن عطاء الله
السكندري:
وشــمس اليـــقين
أبــــهر نورا
بهــاتيك قـــد
رأيـــــنا المنيرا
|
|
هـــذه الشمـــس
قابلتنا بنور
فــرأينا بهذه
النـــور لكــن
|
فالناظر بتمعن إلى النص يدرك أنه يقدم حقيقة
بنظمها لا بإنتاجها وهي أن وراء كل ظاهر خفيا، وأن ظهور الظاهر لا يعني فضليته
وخفاء الخفي لا يعني عكس ذلك، فالبعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، كما
يدل نور الشمس أو نور القمر– الأكثر مناسبة لموضوع الشعر- على المنير الذي
خلق ودبر لذينك أن يعكسا نوع نور، لكن من منا يتجاوز الآني إلى الآتي والظاهر إلى
الخفي والسبب إلى المسبب وتلك حقيقة يقررها البيت الأول، أما البيت الثاني فيدعم
الفكرة ذاتها بأن الظاهر يختص بالظاهر إذ هو من جنسه، فلا يمكن للباصرة أن ترى غير
ما يبصر وهو هنا النور اسما، لكن الناظر بالقلوب التي في الصدور وهي الخفية
والحقيقة في مقابل مجاز بصر العين – يرى النور مصدرا
ليرى المنير الحق.
مما سبق نلاحظ أن النص مبني على ثنائية تجري
المقابلة فيها بين طرفين، يكون العمل على تزكية أحدهما مقارنة بالآخر الذي يقصد
إلى الحط من شأنه.
فالرؤية البصرية تقودنا إلى العالم الحسي لذلك فإن
فعلها باطل ومخادع، أما الرؤية القلبية فهي التي تتجاوز المحسوسات وصولا إلى عالم
الحق والكمال.
(3)
ب –
أما القسم الثاني من الخطاب في
الأدب الصوفي فينحو نحو نقل التجربة بدل نقل المعرفة بمعنى أن الشيخ أوالمربي (اسم فاعل) لا يهتم بنقل بعض
المعلومات منظومة عن أهمية ركن من الأركان، أو ضرورة النظر في الأمور على أنها
تبدي أشياء وما خفي كان أعظم، بل يهتم هذا القسم بنقل التجربة المعنية والفرق واضح
بين أن نعلم الشيء وأن نعيش الشيء وهو ما توصلت إليه المناهج التربوية الحديثة بأن
تكديس المعرفة بتعلم الأشياء يسمى Le Savoir Plus بينما يسمى عيش
الظواهر Le
Savoir être وهو من الناحية
التربوية أنفع وأبقى مقارنة مع سابقه ويعني ذلك أن التجربة الصوفية تقول بإمكان
الاتصال بالحقيقة غير أن ذلك لا يتسنى لها إلا بإنكار العقل باعتباره حجابا يحول
بين القلب ونور الحقيقة فكان أن ارتبط ذوقها عندهم بتعطيل فاعليه العقل وإطلاق
فاعلية القلب (4).
اسمع إلى ابن سوار حين يريد للملتقي أن ينسى ذاته
وينسلخ من نفسه ليعيش مع تجربة المعرفة الحقيقية يقول:
وهجـــر ولكــن
منه يكتسب الوصل
وعــــتب هو العتبى
وجور هو العدل
فأصعــــب شيء
عند عــبدكم سهل
فاسمي لــــكم
اسم وفعلي لكم فعل
|
|
فـــراق ولكن فيه
قد جمع الشمل
وبعد هـو الملقى
وسخط هو الرضى
تــــناسبت
الأضداد عندي بحكم
أأحبابنا
لســـــتم سواي حقيقة
|
وسواء كان الشاعر صوفيا مربيا أو معلما من الصنف الأول أو تجريبيا من الصنف الثاني فإنه يتخذ من
أسلافه المتصوفة نموذجا أعلى في رمزهم للغزل ببعض شعائر الإسلام والمديح النبوي
مقدمين له بما يفتح النفس يقول محي الدين ابن عربي:
لعبن بـــي عــند
لثم الركن والحجر
إلا بــريحهم
مــــــن طيب الأثر
إلا
ذكـــــــرتهم فسرت في القمر
حــــسناء ليس
لها أخت من البشر
مـــثل
الغــــزالة إشراقا بلا غبر
ونحــــن في
الظهر في ليل من الشعر
|
|
نـــفسي الفداء
لبيض خرد عرب
مـــا تـستدل إذا
ما تهت خلفهم
ولا دجــا بي
لـــيل ما به قمر
غـــازلت من غزلي
منهن واحدة
إن أســفرت عن
محياها أرتك سنا
للشـــــمس غرتها
لليل طرتها
|
بالإضافة إلى هذه الروح الهائمة بالجمال المجرد،
يجمع صاحبنا إليها تجارب المدرسة المديحية من ابن رواحة رضي الله عنه إلى البوصيري.
الأصيل والمستمد في
تجربة الشيخ ابراهيم انياس الشعرية من خلال دواوينه
إذا كان الإمام أبو العباس احمد بن محمد بن عيسى
الملقب بزروق وهو من هو في التصوف يرى انتهاء زمن الأخذ عن الشيخ فإن قرائن
الأحوال ومقارنة الحوادث واستحضار تجارب المتصوفة المتأخرين تؤكد حصول المنفعة عند
تلقين المشايخ المتصدرين لمريديهم سواء كان التلقين مباشرا مع الرعاية ومراعاة
الخصوصية أم غير مباشر مع الذكاء والفطنة والإرادة.
وعلى كل الحالين فإن التصوف لا يزال يحظى بالقبول
لدى العامة والخاصة - من باب أولى- بسبب اعتماده على خطاب لا يفهم سريعا وبالتالي لا ينسى بسرعة بعد تمكنه
من الألباب.
والقول ذاته يقال عما يراه الكثيرون مسلمة من أنه
كلما تأخر الزمن فسد الناس مقارنة بما كان، غير أن الخيرية– والشواهد تؤيد ذلك– ليست منحصرة مطلقا
في عصر النبوة والعصور المزكاة فحسب، بل إن العصور المتأخرة لها حظها من التزكية
ومبررات ذلك عدم رؤية النبي أو السماع عنه وبه عن قرب، وقد أورد ابن عجيبة حديثا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك المعنى يقول "خير أمتي أولها
وآخرها وفيما بينهما الكدر" إن موضوع قراءتنا هذه (السيخ ابراهيم
انياس) كان كملايين غيره
من الأفارقة قد يوجد ويرحل دون أن يكون له ذكر أو أن يترك أثرا في هذه الحياة،
أحرى أن يكون قبلة ومصدرا من مصادر التربية الصوفية والعرفان والجهاد والعلم،
وموضوع للنقد الأدبي في لغة العرب، وأن يكون له شأن وأي شأن في ديوانها أعني
الشعر، فمن الطفرة – التي لا تفر إلا بالفتح الإلهي– أن ينبغ أحد في لغة لم يرضعها من ثدي أم
فيحسن التخييل بها ويحترم قواعدها النحوية والبلاغية وحتى ترفها الفكري المتعلق
بها، ولو كان في الأصل عرقا من أهلها.
وما يتراءى للقارئ عند الوهلة الأولى من أن
المعوقات اللغوية والاجتماعية ستحول دون تحويل تجربته إلى تجربة للآخرين، تتلاشى
تماما عندما نتذكر أن هنالك أمرا خارقا لا نكاد نستطيع التدليل عليه علميا، وإن
كان هو المفتاح الذي يفسر غيبيا كل تلك الأمور.
لكن هذا النوع من التفسير لا يرضي طموح الناقد ولا
يشفي نهم القارئ رغم مركزيته وجوهريته، وإنما يقنع حين يقرأ ويتفحص النصوص
وخصائصها فيما بينها وما يفرقها ويميزها عن نصوص الآخرين.
ونحن هنا لا نروم حصر ما هو أساسي أو أصيل في
تجربة الرجل الشعرية وإنما نود إثارة بعض الإشكالات، من ذلك أنه أجمع الدارسون على
أن الغنائية ركن ركين من طبيعة الإفريقي فهو مولع بالسماع والتفاعل معه جسديا
وروحيا، لذلك فإن التصوف وجد طريقه إلى هذه البلاد بسرعة واستقر فيها أيما
استقرار، ولذلك كان الشعر الغنائي (مصطلحا) يجد مستهلكيه حين ارتباطه بمشايخ التصوف
مرة، وحين يكون موضوعه مديح النبي صلى الله عليه وسلم.
وتؤكد الخاصة الرمزية في شعر الشيخ ذلك الأمر حيث
دأب على استخدام رموز عربية عند التشبيب في مقدمات مديحياته تبعا لثقافة الخلص من
العرب وذلك بذكر أسماء أعلام مؤنثة كان يرمز بها أولئك إلى المحبة من زاوية
رؤيتهم، ويوردها هو رمزا للجمال غير المخلوق المشير من طرف خفي إلى الخالق، وهو من
ناحية يتابع من خلال الإتيان بها فحول الشعراء العرب ومن حذا حذوهم في سنة الإبداع. انظر إليه حين يقول:
سأمـــــشي لطه
خـير فهـر ومالك
|
|
كلينـــي سلمى
سلـميني لمالكي
|
فهو يورد الفعل المتلو بسلمى ويعقبها بآخر يدل ذات
الدلالة، ويوحي ذلك بأن الفعل الأول كالاسم تلبية لرغبة نفسية كامنة عند الشعراء
في أن تتوارد أفكارهم مع الملهمين الأوائل يقول النابغة الذبياني:
ولــــيل
أقـــاسية بطيء الكواكب
|
|
كـــــليني لهم
يا أميمة ناصب
|
فالفعل هو ذاته والاسم الرامز تغير وان كان يحمل
الشحنة الرمزية ذاتها، أما الموضوع المطلوب الانصراف أو الصرف إليه على الأصح
فتغير بتغير الزمن والسياق والهدف، بين يائس يريد الخلاص إلى المجهول الرحب
لهلاميته، وبين هائم مشوق بحضرة حبيبه صلى الله عليه وسلم.
ويبلغ الرمز ذروته ثقافيا ولغويا عند المتصوفة حين
تكريس المعجم أو قل جعله يتماهى مع المعجم الغزلي بذكر الخمر والسكر والهيام، غير
أن صاحبنا – ربما تورعا – يوجه ذلك إلى حبيبه
حتى لا تطول العنعنة وحتى لا يفتح باب التأويل عليه، وهو في ذلك محكوم بثنائية
كونه يبدع في لغة وثقافة وفي مستوى معين من مستويات الإبداع هو إبداع المتصوفة
المثير للجدل المشرع لباب التأويل على مصراعيه، وبذلك عليه أن يماشي ويجاري كبار
الشعراء وقد فعل، وهو من ناحية محكوم بمحيطه كمرب وكشيخ يتعلق نوع تعلق بمحيط لا
يجاريه في مستواه ولا في ذوقه وبذلك عليه أن يحتاط لنفسه من التقول والتأويل.
فالشيخ يرضي شطره الأول حين يجاري الفحول
بالاقتدار على احترام تقاليد الخطاب الشعري العربي فتراه يحترم قواعد
التصريع وتقنيات البلاغة كحسن التخلص وبراعة الاستهلال وروعة الختام مثال ذلك كله
في البيتين التاليين:
نسيـــما سرى من
ذا الضعيف فيخلص
شـــفاء ســـقامي بــل يتم تخلص
|
صــبا جـــبلي
نعــمان بالله خلص
فـــإن نــسيما
مثـله سيــــتم لي
|
وهو إلى ذلك يبدي تحكما غير متوقع في الأدوات
النحوية بقواعدها انظر إليه في بيت واحد يورد قاعدة من احتمالين دون أن تكون هدفا
له، فهو يريد "عسى" ويلحق بها ياء المتكلم
مع نون الوقاية، ويعكس الآية بالنسبة لـليت التي يوردها متبوعة بياء المتكلم دون
نون الوقاية، وفي الحالتين رغم رجوح استخدام غيرهما إلا أن ذلك يدل على سعة إطلاع
وتحكم في القواعد النحوية يقول:
يعـــــانقني
طــه الأمين ويبهج(7)
|
عســاني
ولـــــيتي إذا أحل بطيبة
|
إن علاقة الشيخ بالثقافة العربية ليست علاقة
المستهلك ولا المقترض بل هي علاقة التماهي والدلالة على ذلك لغويا وأدبيا فيما
تقدم بادية – وربما فيما سيأتي – لكنها تبدوا أكثر
حين نقرأ شعر الرجل فنجده مليئا بالأناة والآهات تعبيرا عن عيش الهم العربي متمثلا
في القضايا الكبرى التي واجهتهم كقضية فلسطين واحتلال سيناء ومعادات الغرب يقول في
الدعاء على جنسون وأعوانه والتوسل لعودة القدس وسيناء:
عـــصابات
إسرائيل أهل غباء
أبـــانا وديـــانا رقــــاب إماء
وعــيسى وإبراهيم
أهــل علاء(8)
|
ســــألت
إلهــــي أن يذل بسرعة
وطـــهر لنا
الــقدس الشريف وأهلكن
وحــرر لــنا
ســيناء بموسى وأحمد
|
ومع ما يكتسبه شعر الشيخ من عمق وخصوصية في نصوصه
أفقيا وانتشاره عموديا فإنني بعد ما اطلعت عليه من دواوينه أكاد أجزم أن البعد أو
البين بالعبارة الشعرية أو الفارق المكاني هو المعنى الذي تدور حوله النصوص، والمفتاح الذي
يفسرها من غير استثناء ولنتفحص فيما يلي صدق هذا الطرح.
الشوق: وهو الحنين إلى
المحبوب وتمني زوال الفارق الزماني أو المكاني لينطفئ شوق المحب، وحيثما قرأت شعر
الرجل نجده مليئا بهذه البينة الصغرى التي تصب في معنى البعد وتمنى زوال ما يعيق
اللقاء من المعيقات، وتصوير ذلك بالنار في الحشى والدمع جاريا لإطفائها صورة عربية دأب عليها
الشعراء يقول الشيخ ابراهيم ايناس متشوقا ومتشوفا إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم:
يحـــاول إطفاء
الجـمر إذ صار محرقا
وهــيج شـــوقي
والفــؤاد تمزقا(9)
|
فــنار اشتياقــي
واقــد وهو مدمعي
وقــد زارنــي
طيـف من أحمد موهنا
|
ويتسبب الشوق للشعراء وعادة في الكثير من المتاعب
والأهوال،
ولذلك فإن الشيخ على غرار النابغة – مرة أخرى – يتطاول ليله ويصاب
بالأرق في أماكن مختلفة من العالم ولو كان في طريقه إلى الحبيب، في رحلة تبدأ من
وطنه ومن العاصمة السياسية (داكار) وليس من القلعة الدينية المنيعة للتصوف في
ركنه التجاني
ومرورا بباريس مرة، وبالكونكو مرة أخرى يــقــول:
حـــنينا لـــمن
بــين التقى وقباء
جفـــــاني منا من الليل كل جفاء(10)
|
تطــــاول
لـــيلى في داكار مؤرقا
بـــباريــس
لــيلا قد أرقت تشوقا
|
وفي هذين البيتين
خاصية عروضية تستحق التنويه وهي أن شطره الأول يتماهى في الوزن والروي مع الثالث
وشطره الثاني على العادة مع الشطر الرابع، وهي طريقة البيت
الشعري في اللهجة الحسانية المعروفة (بالكاف)، وهي كذلك طريقة
للتقفية في بعض الشعر الفرنسي المعتمد على الرنة le Sonnet وفي رحلة أخرى إلى
الحبيب تمر بالكونكو يقول:
حنــــينا إلى
المأمون هادي البرية(11)
|
تطـــــاول ليلي
عند كونـج فلـم أنم
|
ويبلغ التماهي مع
النابغة ذروته عند لشيخ بعد تطاول الليل حين يذكر اسم ملهمه الأول في الشعر وقد
ألمحنا إلى شيء من ذلك في بداية هذه القراءة، والشيخ يصرح به هنا قائلا:
وصحـــبي نــــوم
وسط الخيام
كنابغة جفــا
جــــفني مـنام(12)
|
|
أكابـد ما
أكــــــابد مكن غرامي
تساورني
النـــــــجوم قبت ليلي
|
وفي انتظار حصول
وصل الحبيب الذي هو سبيل إطفاء نار الشوق يتمني الشاعر المشوق ويتصور الشيخ العارف
جملة من البدائل الآنية بها يتصبر حتى يحصل المراد، من ذلك سريان الروح للالتحام
بجسد أو روح الحبيب يقول:
فــتم لـــقاء
بــين ذيـن هنالكا(13)
|
ســريت بــروحي
اقتفي جسـم أحمدا
|
وقد يتلازم الشوق مع الجذب وهو حالة عرفانية تتوق
فيها الروح إلى حبيبها يقول الشيخ:
فــجذب وشوق لا
يـــزال مبرح(14)
|
دواعــي
اشــتياقي للمــدينة جمـة
|
ومن مخلفات الشوق المناجاة وهي تسليم النفس ذاتها
للتنفيس عنها من خلال حديث النفس الداخلي Monologue يقول في المناجاة:
غــراما
وتـهـياما بـجنح بهــــيم
وقــد طـربــوا
وجـدا لـذكر عظيم
وأطـــوي به
البــيدا ونلت مروم(16)
|
أنــاجيه فـي تـيماء
كيــص لأندر(15)
ونـــام خـلـيـلي
والـمـحب مؤرق
فــبت أراعـي
الـنـجـم أنـسج مدحه
|
وآخر المقامات التي يعرفها المتصوفة يسعون إليها
هي مرحلة رفع الحجاب وهي من المراحل التي تنتج عن شدة التشوق وفرط الشوق الذي
تؤججه المسافة كحائل مادي، ويحاول المتصوفة خاصة الشعراء منهم التغلب عليه من خلال
القرب المعنوي يقول الشيخ:
وأبـعدت إذ
أدنيـت للحب من يهوى(17)
|
|
رفــعت حجاب
البين والبين لم يطوى
|
ومع وصولنا غاية البعد في القرب، ورفع الحجاب بعد
طمس البصيرة نكون قد تعرفنا على نتائج الشوق داخليا على النفس الإنسانية وردة
فعلها الخفية، غير أن هناك مرحلة من الضعف أمام الشوق تنتج ردة فعل أخرى فتكون
المعادلة بين الشوق سببا والدمع نتيجة وردة الفعل هذه ضعيفة يقول الشيخ:
وإن غــفلوا
أرسلت دمعـــي مطلقا
وذلك حـــال
الحـب حين تحرقا(18)
|
|
إذا نظــــروا نحوي
أكفكف أدمعي
فقـــيد
وإطـــلاق لـدمعي كلاهما
|
وفي الوداع يقول:
جـــرى الدمع مني
والفؤاد مجرح(19)
|
|
وودعتــــه لا
أستـــطيع وداعه
|
ولا يسلم الشوق عند
المحب من محفزاته الداخلية، ومعيقاته الخارجية التي من أبرزها في تاريخ الثقافة
العربية عامة والنسق التصوفي خاصة العذول الذي يحاول ثني المحب عن حبيبه دائما،
وهو يحاول أن يجعله يعيش معه الحال حتى ينصفه وتكون المرافعة دائما في شكل حوار
خارجي Dialogue مقابل الحوار الداخلي السابق الذكر
على النحو التالي:
فعــذرك من شمس
الظهيرة أوضح
عــن الطب يغنيني
كمن ظل يجرح(20)
عـلى ذاك نـفسي والــضيا يتبلج(21)
|
|
يقولون لا
تخـــــرج لسقم ومهرم
الرد:
فقلـــــت شفا
سقمي الوقوف ببابه
تعزيز الرد:
فهــل حــان وصل
من جيب فتبهج
|
ويأتي الحكم
النهائي عند صدور حكم القاضي لإنهاء المرافعة يقول:
محبة طـــه
الهاشمي وقد مضـى(22)
|
|
قضــى لي قاضي
الحب متى قضـى
|
والمضي هنا يعني
رفع الجلسة.
الهــوامــش:
1ـ الدواوين الست(ة)، الشيخ ابراهيم انياس، دون
مكان للنشر ولا تاريخه ص 3
2ـ النص الشعري ومشكلات التأويل عاطف جوده نصر،
الشركة المصرية العالمية للنشر القاهرة 1996 ص 138.
3ـ الشعر الصوفي وفيق سليطين، مجلة فصول، مجلد 14 العدد 2/ 1995 ص 157
4ـ نفسه ص 169
5ـ ديوان سير القلب بمدح المصطفى الحب إلى حضرة
الرب، الشيخ ابراهيم انياس، مكتبة النهضة السينغال ص 68.
6ـ نفسه ص 96
7ـ نفسه ص 107
8ـ نفسه ص 79
9ـ نفسه ص 65
10ـ نفسه ص 75
11ـ نفسه ص 104
12ـ جامع جوامع الدواوين الشيخ ابراهيم انياس، دار
النهار مصر، ص 10
13ـ ديوان سير القلب بمدح المصطفى الحب إلى حضرة
الرب مذكور سابقا ص 69
14ـ نفسه ص 69
15ـ وردت أعلام أماكن غير عربية وهي في الأساس أسماء
عواصم بعض الدول مثل (داكار)
العاصمة السينغالية، كنغو يعني جمهورية الكنغو برازفيل، باريس العاصمة
الفرنسية، أو أسماء مدن كبرى كما هي الحال هنا (كيص) تحريف لاسم عاصمة
إقليم في السينغال Thiès، (اندر) وهي عاصمة إقليم الشمال في السينغال،
والعاصمة الأولى لموريتانيا إبان الاستعمار والاسم القاموسي لها هو Saint-Louis.
16ـ جامع جوامع الدواوين ص 11
17ـ الدواوين الست، ص 40
18ـ ديوان سير القلب بمدح المصطفى الحب إلى حضرة
الرب، ص 59
19ـ نفسه ص 137
20ـ نفسه ص 132
21ـ نفسه ص 107
22ـ جامع جوامع الدواوين ص 10
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق