السبت، 23 يناير 2016

الأثرالواقعي للشيخ التراد في منطقة إكيدي الشيخ بن بابيج نموذجا

د. أحمد سالم ولد اباه 
أستاذ جامعي    

لا يحتاج المرء كبير عناء ليلاحظ أن الشيخ التراد بن العباس القلقمي بانتمائه إلى الأصل القريب كان مهيئا للتأثير في محيطه وخارجه، كما أثر آل محمد فاضل من قبله في عموم أرض البيظان بالمعنى الشمولي من تيمبكتو شرقا إلى الساقية الحمراء غربا، ومن قلب الريشات شمالا إلى دكار الأطلسي جنوبا، وهو التأثير الذي جعل شهرتهم على ألسنة العامة تكون "الأشياخ" ومن ثم فالطريق سالكة أوصلها النسابون إلى الدوحة النبوية الوارفة.
عُرفَ الشيخ التراد من خلال مؤلفاته التي منها: «مشارب الأرواح بكاسات الراح»، و«دقائق الحقائق»، و«رسالة الفرائض»، و«رسالة حكم الهجرة من البلاد المحتلة»، و"رسالة التبرع" عالما متقنا متبحرا في الشريعة ، وفي الحقيقة نال مريدوه على يديه وبعد رحيله من التربية والعرفان وثمرتهما من التمكين والتسخير ما أهله ليكون شيخا أيما شيخ، وحسبك من ذلك النظر في سلسلة من وضعوا عصا الترحال ببابه نهاية لرحلة البحث عن الشريعة والحقيقة، ولا غرو فمن الاسم تحدد الوسم إذ ما التراد سوى كبير الأيقونات في المسبحة الذي تنتهي إلية كلمة الشهادة.
كان الشيخ سيد محمد التاكنيتي أحد أولئك الذين أقنعهم سمت التراد ودلُه، بعد رحلة بحث عن الحقيقة جابَ فيها أغلب الفضاء المحدد سلفا، فقد أرضى الشيخ التراد كبرياء روحه المُهومَة نحو المعارف، وأغرى قلبه بالاستقرار في دائرته الزاخرة بالألوان والشكول، وجعل جرمه يرضى بزاوية من زوايا حضرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فتخير الشيخ سيد محمد من رحيق تلك الزاوية ما يصطفي ويجتبي لنفسه الشاعرة المحبة للنبي الكريم المشبعة بقيم القرآن ومعانيه، وقد تجلى ذلك في ديوانه الشعري اقتباسا من نور المصدرين يقول:
   ألا إنمـا الـدُّنـيــــــا ســـــــــرابٌ بقِيعة_______فلا بـدَّ يبـدو عـن قـريبٍ زوالُهـــــــــا
    فتصـبح مـن وقت الـمـنـون بــــــــلاقعًا           مُجـدَّلةً فـيـهـا النِّسـا ورجـالهــــــــــــا_
   كأن لـمْ تسـرْ فـيـهـا غُدُوّاً ظعــــــــائن            يشـوق عـيـونَ النـاظريـنَ جـمـالهـــــــا_
   فلا يَغْرُرَنْكَ الـدهـرُ مـا عـشـتَ إنَّهــــــا          غرورٌ سـيُرخى مـا تُشَدُّ حـبـالهـــــــــــا
   فـمـن كـان ذا عقـلٍ وديـــــــــــنٍ وعفَّةٍ            يغادرُهـا إن الفـنـاءَ مآلهــــــــــــــــــــا

وفي المحبة والشوق إلى الحبيب والتعلل بمدحه عليه الصلاة والسلام يقول:

حـلفتُ بربّ الـيعـمـــــــــــلاتِ إلى مِنًى           تجـوب الفـيـافـي قـد تخـوّفَهـا الرحــــلُ

لَما فـي الـورى مـثلُ النـبـيّ محـــــمدٍ             ومـا فـي الـــــــــورى مدحٌ لأمداحه مِثْلُ

وإنـي بـمدحـي للنـبـيّ معـــــــــــــوِّلٌ               عـلى فضل مَن مِن فضله يُرتجى الفضلُ

وقـد كـنـت أحجـو الـمدحَ أهلاً لغـــــيره             فألفـيـتُـــــــه فـي الغـير لـــــــــــيس له أهل

عاد الشيخ سيدي محمد إلى مضارب قومه ومنتجعاتهم مابين آوكار والعزلات ولعكلل، وهي تخوم تلتقي فيها مسارح القوم مع أخوال الشيخ بن بابيج حيث تقيم حلة أولاد امحمد، فينزل مبجلا مكرما، أويرتحل مع الحي من أبناء المين بن اجفاغ الماح في رحلة الشتاء والصيف من لمسيحة شملا إلى تنيدر جنوبا.
كان الشيخ بن بابيج كعامة قومه ما إن طُرَ شاربه حتى استكمل المكتوب واستظهر المنطوق، ووعى المعقول، وطلب بالرحلة المنقول، لكن نفسه ظلتْ تتُوق بشدة إلى ارتياد عالم مجهول يناديها من غير أن يتحيز فيرى، فاستجاب له بترحال مستمر، ساعده فيه أن كان مُعماَ مُخْولاَ فكانت الربوع تتلقاه بالترحاب غير عجلى على فراقه، وإن كان يرحل مجيبا الداعي بنشيد وترنيم وترديد صوت قل مثيله في الحسن، مع هيئة أكبرها كلُ من رآها أن تكون لشخص من النوع المألوف، ولقد كان حدسه في أن الرحلة هي طريق الخلاص صادقا، فذات سانحة التقى على غير ميعاد بالقافلة التي ستجيب على أسئلة الحيرة، وتطفئ ظمأ الصادي، وتُمكنَ لحياة هنيئة كريمة، وقد روى الشيخان قصة اللقيا تلك من بعد ذلك وتناقلها الرواة بتواتر في سندها وإحكام في متنها......
إن تخصيص منطقة إكيدي للنظر في تأثرها بالشيخين ينبع من صعوبة أن "يظهر" فيها غيرُ الشمس ضوءا مهيمنا، أو يُتناقل فيها غير خبر الغيث المفرح الممرع، بلْهَ أن يُشاد بالأشخاص إلا أن تُؤَهلهم صفاتهم وتشهد لهم فعالهم، باجتياز أنواع الابتلاء وأصناف الامتحان، فنحن هنا لا نتوقف كثيرا عند وفرة الأتباع وتنوع الصُحبة، وتناقل الخوارق وقصص التمكين، ومظاهر الاحتفاء والترحيب في كل الأصقاع، بل واستعداد الناس للانسلاخ من ممتلكاتهم، يقول المختار بن حامد " ومنهم محمذن يحي بن احمد عالي بن أحمدن صوفي عابد جواد انسلخ من ماله كلاَ للشيخ بن محمد إسحاق بن باببيج ولم يزده ذلك إلا سخاءً وإكراما للضيف" لانتوقف عند هذا التواتر في المرويات، لكننا نتوقف مع شهادات لمشايخ سارت الركبان بعدالتهم وورعهم وعُلُو كعبهم في العلم والقضاء والتصوف استمع إلى العالم الرباني محمد سالم بن ألما مشيدا بالمنزلة الرفيعة لابن بابيج شريعة وحقيقة يقول:
ما "فَشَني" نجلُ بابيْجَ الهمامُ ألا       فاصدعْ بما ريْتَ منه دُونَ بُهْتان
            ما نجلُ بــــابيجَ إلا بحرُ معرفة       وبحر فيْض وتحقيق وإتقـــــــان
أما القاضي سليل أسرة العلم والقضاء حامد بن ببها بن العاقل فقد سار في الإشادة به على نهج ابن ألمَا السابق شريعة على طريقة موسى وحقيقة على طريقة الخضر يقول :
شيْخُ المشايخ في بدو وفي حضر     سليـــــل بابيج ذو علم وذو نظر
أولاهُ مولاه علم اللدْن في صغر      من علم موسى كليم الله والخضر
أما حامدٌ بن المختار السالم بنُ عبد الله بن والد بن أحمد بن متيليه، وهو " أحد شباب العصر النابهين – كما قال عنه ابن حامدٌ في موسوعته – ثقافةً وأدبا وورعا، أخذ من كل فن حظا عن أحمد باب بن اليدالي، والمختار بن المحبوبي، وأحمدو بن محمذن فال الحسني، وتصوف على يد الشيخ بن محمد اسحاق بن بابيج " فيقول فيه :
ألا إن نور الشيخ باد لمن حضرْ            ومن غاب جمٌ في الحضارة والسفرْ
وقدْ كــان ذاك النور قدما موارثاً            عن الشيخ والجدين بـــابيج ما استترْ
همُ القومُ - عمري – لا محالة إنهم           ينال بهم شيء عجيـــب لذي البصرْ
صلاح لقلب فــــــــــــــاسد متكسر           لقلة ما صلــــــــــــــــى وقلة ما ذكرْ
بجاه رسول الله ثم بجـــــــــــاههم            ييسر أمري في الخفـــــــاء وما ظهرْ


وها نحن اليوم نستقبل سلسلة الذهب هذه في صالون الولي العارف بالله محمذن بن محمودن، الذي طال ما كان الركن الشديد الذي يأوي إليه ابنُ بابيج لأخذ قسط من الراحة قبل أن يتجافى جنبه عن المضجع فيذكر ربه بصوت ندي وقلب خاشع طري، حدثني الوليُ غير مرة – من باب معرفة الولي للولي - أن ذلك الصوتَ لمْ يفارق مسمعه مذْ خالط شغاف قلبه قبل عقود، سواء في هذا المنزل المبارك، أو لدى زيارته لضريحه باحسي السعادة عليهم رضوان الله أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق